Out of Africa
ملحمة رومانسية في رُبوع أفريقيا مع صيادٍ وبارونة
في أحد المشاهد
نعيش تلك اللحظة، حيث كانت هناك لبؤة على وشك أن تهجم، ولكنها لم تفعل. البارونة
كانت تمتطي حصانها وتتجول في المرج، ثم تنزل من على ظهرهِ وتترك بندقيتها بعد أن
اندفع الحصان بعيداً. الآن يبدو أنّ اللبؤة ستقوم بتغيير موقفها، ولكن نسمع من
وراء البارونة صوتاً هادئاً ينصحها بعدم التحرّك والبقاء ساكنة. الصوت يقول:
"إنها ستذهب بعيداً"، وبالفعل تذهب اللبؤة بعد أن تشبع فضولها. هذا
المشهد يؤسّس اللحظة الرئيسية لفيلم "خارج أفريقيا". البارونة في رحلة
السفاري مع صاحب الصوت الهادئ وهو صيّاد يدعى "دينيس".
الفيلم مبني على
حياة وكتابات البارونة الدنماركية "كارين بليكسن" التي تزوّجت من شقيق
عشيقها بشكل عفوي وغير مخطط له وانتقلت معه إلى كينيا بشرق أفريقيا، وهناك أدارت
مزرعة بُنّ على منحدرات كيليمانجارو، ولاحقاً حين أفلست المزرعة بدأت بكتابة كتبٍ
حول تجاربها. "خارج أفريقيا" و"سبع حكايات قوطية" هما أروع
كتبها التي نشرتها تحت اسم مختلف، ولكن ليست الكتب هي مصدر الإلهام الكلّي للفيلم.
ما نراه هو قصّة حب عميقة وقديمة الطراز تُروى بهدوء وعناية فائقة وتجعلنا نتوغّل
في مشاعر الشخصيات.
بالإضافة للبارونة
"كارين" والصيّاد "دينيس"، هناك أيضاً شخصية رئيسية أخرى، وهو
البارون المفلس "برور" الذي تتزوجه البارونة. إنه يبتسم دائماً ووجهه
بشوش ويحبها بما فيه الكفاية، ولكن مع ذلك لا يبدو أبداً أنه يتوافق مع طبيعتها.
تصاب "كارين" بمرض الزهري وتعود إلى وطنها لتلقّي العلاج وكانت الحرب قد
اندلعت حينها، وفي نفس الوقت نراها تدخل حرباً مع مرضها، وسلاحها هو الدواء، وبعد
أن تتماثل للشفاء ترجع مجدداً إلى أفريقيا التي تشعر فيها بأنها في منزلها أكثر من
وطنها الدنمارك. تكتشف "كارين" لاحقاً أن "برور" يخونها مع امرأة
أخرى وتطلب منه بهدوء مغادرة المنزل. يعود إليها لاحقاً ويطلب المال بعد أن انتقل
"دينيس" للعيش في مزرعتها.
تدور أحداث الفيلم
في فترة غريبة من التاريخ، حيث كانت دول شرق أفريقيا – كينيا وأوغندا وروديسيا
وغيرها – تجذب المواطنين الأوروبيين للعيش فيها والاستقرار بعد أن شعروا بالقلق
والاستياء إثر بوادر نشوب الحرب العالمية الأولى. الكثير منهم اختار الاستقرار في
كينيا لأن جوَّها لطيف والحياة فيها هادئة نسبياً. في أحد المشاهد المؤثرة نرى
"كارين" وهي تتوسّل إلى المحافظ البريطاني وتدعوه إلى تقديم أرضٍ
للإفريقيين الذين يعيشون في مزرعتها المفلسة.
قبل تلك اللحظة،
لم يبدُ أنها كانت مهتمة بالإفريقيين بهذا الشكل، ما عدا مشرف الأعمال العجوز بمزرعتها
الذي يصبح صديقاً مقرّباً لها. إنّها تغرق في أمواج المشاعر التي تجتاح حياتها.
إنّه يريد أن ينقل
"أشياءه" إلى منزلها، ولكنّه لا يريد أن ينقل "نفسه". إنّه
يريد الالتزام، وكذلك يريد الحرّية الشخصية. غموضه نحوها مثل غموضه نحو الأرض.
هكذا هو "دينيس"، ولأنّ فيلم "خارج أفريقيا" تمّ إخراجه
وكتابته وتمثيله بمنتهى الإتقان، لا نرى تصرفاته متعمّدة أو فاسدة ولكن كجزء من
التناقضات هو يحتاج للبقاء بمفرده في أرضٍ مجتمعها الأبيض منظّم بشكلٍ صارم.
البارونة لا تحتاج
لمثل هذه الأمور، فإنها تجسّد تناقضات كافية في حياتها. في أرضٍ إفريقية حيث السود
أجانب حسب الاعتقاد السائد لدى المستعمرين، هي تعتبر نفسها أجنبية بيضاء وتضع
لنفسها حدوداً لا تتجاوزها. إنّها تكتب وتفكّر بدلاً من الثرثرة والشرب، وتدير
مزرعتها الخاصة بنفسها ولا تعير اهتماماً بما يدور من أقاويل وإشاعات في المنطقة.
في ذلك الصيّاد، تجد البارونة روحاً تطابق روحها والتي تقود في نهاية المطاف إلى
تراجع العلاقة بينهما.
"خارج أفريقيا"
هو فيلم مذهل ويستحق المشاهدة، حيث يتمحور حول المشاعر المعقّدة والمنجرفة نحو
المجهول، والمخرج "سيدني بولاك" ينجح في تكوين الرؤية السينمائية
الدقيقة لهذا الفيلم بعبقريته وفنّه. الفنانة العظيمة "ميريل ستريب" هي
هديّة ثمينة لكل مخرج يريد تحقيق الإبداع في السينما، وهي تصلح لأداء مختلف
الشخصيات، وفي هذا الفيلم تؤدي دور البارونة "كاريل" بأسلوب مميّز
ورائع، خصوصاً حين نستمع إليها وهي تتحدث الإنجليزية بلكنة تبدو وكأنها ليست لغتها
الأصلية، ونصدّق فعلاً أنها دنماركية.
الفنان
"روبرت ريدفورد" أبدع في أداء شخصية الصيّاد "دينيس"، حيث
أظهر فيها الجانب الغامض والمثير للريبة، مما يجعل المشاهدين في حيرة من أمرهم. أدّى
دور البارون "برور" النجم النمساوي "كلاوس ماريا برانديور".
كتب النص
السينمائي "كرت ليودك" وبقي مخلصاً لكتاب البارونة "كارين
بليكسن"، واستطاع جمع خيوط القصة وصياغة الأحداث بالشكل المطلوب. الموسيقار
الراحل "جون باري" يستحوذ طوال الوقت على مشاعرنا بموسيقاه الخلّابة
التي تنقلنا إلى رحلة السفاري مع الشخصيات، ولا تكتمل الروعة إلاّ بعدسة الفنان
"ديفيد واتكن" الذي يتيح لنا رؤية المناظر الرائعة في أدغال أفريقيا.
حاز الفيلم على 7
جوائز أوسكار بعام 1985 لأفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل نص سينمائي مقتبس وأفضل
موسيقى تصويرية وأفضل تصوير وأفضل تحرير صوتي، وقد ترشّح أيضاً لنيل 4 جوائز أخرى
لأفضل ممثلة "ميريل ستريب" وأفضل ممثل مساعد "كلاوس ماريا
برانديور" وأفضل تصميم أزياء وأفضل مونتاج. هذا الفيلم هو ملحمة رومانسية
راقية، ويقول "دينيس": "لم يُخلَق صوت مثل صوت موسيقى
موزارت"، وأنا أؤكد قوله هذا والفيلم كذلك، حيث افتتح الفيلم مَشاهده بمعزوفة
كلارينيت لهذا الموسيقار العملاق.
البارونة
"كارين" موهوبة في سرد القصص الارتجالية وهي تحتاج فقط إلى الجملة الافتتاحية
للقصة حتى تبدأ بسردها. كان "دينيس" يجلس مع "كارين" وزوجها، وقد
زوّدهت بجملة افتتاحية حول رجل صيني باسم غريب يعيش في منطقة غريبة، و"كارين"
أكملت القصة بأسلوب مشوّق وأدهشتهما، فاستغرب "دينيس" من معرفتها بتلك
المناطق وثقافاتها، وهي أخبرته أنها تحب السفر بعقلها وذلك لا يحتاج للطعام أو
النوم.
نصل لاحقاً مع
توالي الأحداث في الفيلم إلى جملة افتتاحية أخرى من "دينيس" تقول:
"كانت هناك امرأة شابة من الدنمارك، صعدت على متن باخرة متّجهة نحو قناة
السويس..." وتكملها "كارين" وتقول: "وكانت هناك عاصفة... قادمة
من المغرب، وانجرفت الباخرة باتجاه اليابسة على شاطئٍ... على شاطئٍ أبيض... شاطئٍ
شديد البياض". لم تستطع حتى إكمال الجملة الافتتاحية في قصة حياتها، فقد كانت
متوترة وتشعر بالضيق، والحزن بادٍ على وجهها، فتنهض من على الطاولة متوجهّة إلى
الخيمة. كم كان مشهداً مؤثراً.
الفيلم
يلتقط وبشكل جميل ومؤلم آخر الأوقات إثارةً في آخر الأماكن البريّة على وجه الأرض،
ممّا يجعلني أشعر حقّاً بأنّي غبت عن شيءٍ رائع بكوني وُلِدْتُ بعد فوات الأوان.