يتكوّن حتى يكتمل، فيضحك ويضحك، ثم يخرج من رحم
الحياة مضرجاً بالدماء..
Joker
لو سألني أحدهم
يوماً، كيف تصف فيلم "جوكر"؟ لا أستطيع أن أجيبه بإجابة مستوفية تليق
بالسؤال، فالفيلم السينمائي المعتاد هو تشكيلة من عناصر أساسية مجتمعة، كالمخرج
والكاتب والممثلين وطاقم العمل والمؤثرات الفنية والتقنية، ولكن هنا أنا لا أشاهد
فيلماً بالمعنى الدقيق. أنا فقط أشاهد "خواكين فينيكس"، وكأنما الفيلم
هو مجرد رداء، و"خواكين" هو الجسد الذي يرتديه.
هذا الفيلم عبارة
عن عناصر خواكينيّة مجتمعة ومتناغمة بشكل لم يسبق رؤيتها واختبارها إطلاقاً، فقد
شهدت إبداعاً لا يُوصف من ممثل مدهش انسلخ حرفياً من ذاته وفقد أكثر من 23 كيلو من
وزنه وتقمّص شخصية مضطربة وصعبة، وأظهر فيها كل المشاعر المتوغلة في النفس
البشرية، من حب وكره وخوف وحقد وألم ووحدة ومعاناة.
الشعور بالنقص،
وعدم التقدير، والاحتقار والسخرية والتنمّر من قِبَل الآخرين، ونظرة المجتمع، والتجاهل
واللامبالاة، وأمور أخرى كثيرة نرى انعكاساتها في تلك الشخصية. إلى أي مدى يمكن أن
تتحمل النفس البشرية كل هذا الأذى؟ لا شيء أصعب من السعي إلى الكمال في عالمٍ
ناقص.
في مدينة غوثام
بعام 1981، نرى "آرثر فليك" جالساً أمام المرآة، ويتأمّل نفسه كمهرّج
محترف وهو يضع المساحيق والأصباغ على وجهه، محاولاً أن يبتسم باستخدام يديه لتمديد
شفتيه حتى تصل ابتسامته إلى أُذنَيْه. تلك الابتسامة تنسفها دمعة صغيرة، لتكشف لنا
عن رجل حزين وتعيس ومريض نفسياً، وأكثر ما يتمناه هو أن يصبح فناناً كوميدياً. "ابتسم"
أو "Smile" هي الأغنية الشهيرة من الفيلم الكلاسيكي العريق "Modern Times"
للفنان الكبير "تشارلز شابلن"، وهي مرتبطة روحياً بالفيلم وبـ "آرثر".
كالماء والزيت، لا
يستطيع "آرثر" أن يندمج مع العالم، وذلك يدفعني لمعرفة أسباب ذلك، ولعل
أحدها هو أنه يعاني من حالة مرضية غريبة تدعوه للضحك اللا إرادي في مواقف غير
ملائمة على الإطلاق، كالضحك بعد موت شخص عزيز أو خلال تقديم عرض كوميدي فاشل.
الأمر أشبه بدراسة للشخصية ومعرفة أصولها والعوامل التي أدّت إلى وصولها إلى ما هي
عليه الآن، وكيف ستصبح في نهاية المطاف واحدة من أكثر الشخصيات اضطراباً وجنوناً
في تاريخ الشخصيات السينمائية الشريرة.
الكاتب والمخرج
"تود فيليبس" ليس اسماً مألوفاً في فيلمٌ كهذا، فتاريخه الفني ينطوي في
أفلام كوميدية ساخرة وبذيئة كثلاثية "The Hangover"، وبالتالي فيلم "جوكر" يعتبر تجربة جديدة ومختلفة
كلياً بالنسبة له ككاتب ومخرج، ولذلك أشيد بجهوده هنا. المستوى الفني والتقني
للفيلم بشكل عام كان مميزاً، من تصوير ومونتاج وموسيقى ومواقع تصوير وأزياء
ومكياج، ولا أنسى أداء طاقم الممثلين أيضاً.
فيلم "جوكر" لا يبدو أبداً كواحد من أفلام DC ولا يريدنا أن نشعر بذلك، فهو فيلم مستقل بذاته وشخصيته، ولا يدعونا
لترقّب جزءٍ ثانٍ أو سلسلة جديدة، برغم ظهور
شخصيات معروفة مثل "توماس وين" و"بروس وين" في الفيلم. لقد نال
الفيلم جائزة الأسد الذهب في مهرجان فينيسيا السينمائي بكل جدارة، فهو من أفضل
أفلام عام 2019.
انتابتني أثناء
المشاهدة لحظات من التفكير في أفلام "سكورسيزي" الرائعة، وكأنما هذا
الفيلم من إخراجه، فهناك ارتباط وثيق بين هذا الفيلم وفيلمين سابقين له، وهما
"Taxi Driver" في جانب العوامل التي جعلت البطل يصل إلى ما وصل إليه،
وفيلم "The King of Comedy" الذي يدور أيضاً عن مهرج يحاول تحقيق حلمه وإضحاك الآخرين،
والأمر المثير أن الفنان الكبير "روبرت دي نيرو"، الذي كان البطل
الرئيسي في الفيلمين السابقين، يشارك في هذا الفيلم، وقد ابدع برغم ظهوره القصير.
في هذا الفيلم يؤدي "روبرت دي نيرو" شخصية الفنان الكوميدي
"موراي فرانكلين" الذي يقدّم برنامجاً كوميدياً شهيراً،
و"آرثر" معجب به جداً، ويعتبره قدوته ويتمنى أن يصبح مثله، حيث اعتاد
مشاهدة البرنامج مع والدته في شقتهما، ويقول لها: "أتمنى أن أصبح فناناً
كوميدياً"، وهي ترد قائلة: "كيف تصبح كوميدياً وأنت لست مضحكاً؟!".
الفنان المبدع "خواكين
فينيكس" في هذا الفيلم يقدّم أقوى أداء له في مسيرته السينمائية، وأتوقع أنه سيكتسح
الجوائز لهذا الموسم وخصوصاً جائزة الأوسكار لأفضل ممثل، فبجسمه الهزيل والمخيف، وبإيماءات
وجهه ونظراته المريبة، وبطريقة سكونه وحركته ومشيته وركضته وجلسته، وبابتسامته
وضحكته، لا يحاول أبداً أن يقترب من جوكر "هيث ليدجر" أو جوكر "جاك
نيكلسون" أو حتى جوكر "جاريد ليتو"، ولا يريدنا أن نقارن شخصيته
وأداءه بهؤلاء إطلاقاً، فجوكر "خواكين" ليس ذلك الجوكر الذي تم تجسيده
عشرات المرات في الأفلام والمسلسلات والكوميكس، فهذا جوكر بلا "باتمان"،
كما لو لم نره من قبل أبداً، كالجنين الذي يتكوّن ويتشكّل شيئاً فشيئاً، حتى
يكتمل، فيضحك ويضحك ويضحك، ثم يخرج من رحم الحياة مضرجاً
بالدماء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق