الاثنين، 27 يناير 2020

Little Women 2019


أعظم اقتباس سينمائي لتحفة الكاتبة "لويزا ماي ألكوت"
Little Women



يفتتح هذا الفيلم مَشاهده بعبارة "واجهت العديد من المشاكل، ولذلك أنا أكتب قصصاً مسلّية". قائلة هذه العبارة هي الروائية الأمريكية المبدعة "لويزا ماي ألكوت". لقد شهدنا جميعاً، على مر الأعوام، اقتباسات سينمائية وتلفزيونية عديدة لتحفة "ألكوت" الأدبية "نساء صغيرات"، ولعلّ أشهرها هو الفيلم السينمائي الرائع الذي تم إنتاجه في عام 1994، للمخرجة "غيليان آرمسترونغ" ومن بطولة الفنانة "وينونا رايدر".

لقد قرأت رواية "نساء صغيرات" لأول مرة حين كنت في المرحلة الابتدائية، وأذكر أنها أسَرَتْني، وتعلّقت بعائلة "مارش"، وبعدها شاهدت المسلسل الكارتوني الياباني المقتبس من الرواية، الذي تم إنتاجه في عام 1981، والذي قام بدبلجته للعربية المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية في الأردن، وقد كان جميلاً جداً، ولاحقاً تم إنتاج الجزء الثاني للمسلسل، الذي يُعرَف لدينا باسم "نوّار"، وقد كان جميلاً أيضاً.


لذلك أنا شخصياً أعتبر هذه الرواية أيقونة في الأدب الكلاسيكي العالمي، وقد تأثّرت كثيراً بالقصة وشخصياتها، وأستطيع أن أقول الآن أنني لم أشهد في حياتي اقتباساً سينمائياً للرواية بقوة هذه النسخة الحديثة للكاتبة والمخرجة الشابة المبدعة "غريتا غيرويغ". إنّه حقاً فيلمٌ عظيم ومذهل ورائع، ومن أفضل 20 فيلماً شاهدتهم في حياتي.

حين قرأت لأول مرة أن "غيرويغ" تستعد لنسخة سينمائية جديدة من "نساء صغيرات"، راودتني عدة تساؤلات: "هل نحن في حاجة إلى فيلم آخر؟!". "ما الجديد الذي ستضيفه هذه النسخة؟!". "هل غريتا غيرويغ هي الشخص المناسب لفيلم كهذا؟!".

تلك التساؤلات واردة جداً بشأن كل اقتباس لعمل مشهور ومكرر ومستهلك، فعلى سبيل المثال، كم مرة شاهدنا اقتباسات سينمائية وتلفزيونية ومسرحية لأعمال "وليام شكسبير"، وخصوصاً "هاملت"؟ هل كل نسخة تستحق المشاهدة؟ بالطبع لا. هناك العديد من المنتجين الذين يعيدون إنتاج أعمال مشهورة دون أيّة رؤية فنية جديدة، فبالتالي نرى إخفاقات مكررة ليس لها داعٍ من الأساس.


ما فعلته "غيرويغ" هو شيء جبّار ومدهش. لا يبدو أنها اقتبست الرواية، بل أعادت كتابتها وتطويرها، كما لو أنها مدقّقة أدبية على كتابات "ألكوت"، فقد اتّخذت عدّة قرارات لمعالجة القصة بالتلاعب في الخط الزمني، والتنقّل بين الماضي والحاضر، من خلال مشاهد الفلاشباك، وإعطاء بعض الشخصيات مساحة أكبر، وإضافة لمسة عصرية على الأحداث، كما أن صياغتها للحوارات كانت رائعة ومميزة.


في أول مشهد بالفيلم، نرى "جو" وهي شابة في نيويورك، تعيل نفسها بنفسها، وتبيع قصصها وكتاباتها لإحدى المجلات، وحين يدفعها صديقها "فريدريك" للكتابة عن حياتها وتجاربها الخاصة بدلاً من قصص القراصنة والأشباح، تنبعث إليها ذكريات طفولتها في ماساتشوستس مع والدتها الحنونة والمكافحة، وشقيقاتها الثلاث "ميغ" و"بيث" و"إيمي". والدها غائب عن المنزل، لأنه يقوم بواجبه في الحرب، وحينها "جو" كانت فتاة حيوية وتكتب قصصاً ومسرحيات كمصدر للدخل، وتقوم بتمثيلها مع شقيقاتها في المنزل، كما أنها كانت تعمل مرافقة لعمتها المسنة والبخيلة.

تلك العمة تريد من "جو" أن تنخرط في المجتمع الراقي، لكي تنال فرصة للزواج من أحد النبلاء. "جو" بإمكانها استغلال ذلك والرضوخ لعمتها وخدمتها وتحقيق رغباتها، ولكنها فتاة مليئة بالكبرياء وعزة النفس، ولا تنتظر شفقة أو صدقة من أي شخصٍ كان، كما أنها لا تفكر في الزواج بقدر ما تفكر في مستقبلها ككاتبة ناجحة.


نلتقي بالفتى الوسيم "لوري" من المنزل المجاور، الذي يصبح صديقاً مقرّباً للشقيقات، ويقع في حب "جو". جدّه السيد "لورانس" يعشق الاستماع إلى "بيث" وهي تعزف البيانو، لأنها تذكّره كثيراً بابنته الراحلة. "بيث" هي فتاة خجولة جداً ونادراً ما تخرج من المنزل بسبب مرضها. "ميغ" الفتاة الرقيقة والبسيطة تقع في حب "جون بروك"، وهو المعلّم الخاص لـ "لوري". "إيمي" الفتاة المشاكسة التي تصبح بديلة لـ "جو" كمرافقة للعمّة "مارش"، تجد نفسها منخرطة في المجتمع الراقي في أوروبا، وتطمح أن تكون فنانة مشهورة.


يجب أن أفترض أن معظمكم يعرف هذه القصة بالفعل، ولكن ما يجذبني هو طريقة السرد المبتكرة التي تتّبعها "غيرويغ". معظم الاقتباسات السابقة كانت تركّز بشكل محوري على "جو" دون غيرها من الشخصيات، وهنا نحن نتعرّف على "ميغ" و"بيث" و"إيمي" بشكل أكثر من المعتاد، ولذلك حين تصل القصة إلى نهايتها تكون الأمور أكثر واقعية ومنطقية، ولها مسوّغ واضح.

مسألة اختيار "لوري" لزوجته في نهاية المطاف، قد تبدو في الرواية أنها مجرد فكرة خاطفة خطرت على باله في لحظة ضعف، ولكن "غيرويغ" هنا استغّلت كل الوقت اللازم في بناء هذه العلاقة حتى يصل إلى قراره بقناعة تامّة. حتى مع التغييرات في سرد القصة يظل هذا الفيلم وفياً ومخلصاً تماماً للمصدر، ويُظهِر لنا اللحظات التي نتوقعها وننتظرها ونحبها في أي فيلم "نساء صغيرات" شاهدناه أو قد نشاهده، مثل جلوس الشقيقات حول والدتهن وهي تقرأ رسالة من والدهن، وردّة فعل الجميع حين تقص "جو" شعرها، وانتقام "إيمي" من "جو" بسبب موقف طائش.


يتضمن النص السينمائي أيضاً بعض اللحظات الفرعية المهمة، كالرواية تماماً، بإبراز سلوك المجتمع في ذلك العصر بمنتصف القرن التاسع عشر تجاه النساء وخياراتهن فيما يتعلق بالزواج والعمل والتأمين المالي، و"غيرويغ" بارعة وموهوبة جداً في صياغة تلك المشاهد بعفوية وسلاسة، دون التلاعب والضغط على قضية النسوية بشكل صاخب ومبالَغ فيه مثل ما نشاهده في الأفلام والمسلسلات في الفترة الأخيرة.

المونتاج كان متقناً، والتصوير السينمائي للفيلم كان مبهراً وخلّاباً، ومواقع التصوير كانت أيضاً جميلة ونقلتنا حرفياً لتلك الحقبة الزمنية، ولا أنسى الأزياء الرائعة للمصمّمة المبدعة "جاكلين دوران"، وكذلك الموسيقى التصويرية للمبدع "أليكساندر ديسبلا" كانت رقيقة وجميلة ومنسجمة جداً مع الأحداث.


في هذا الفيلم وفي فيلمها السابق والرائع "Lady Bird"، قامت "غيرويغ" بعمل مبهر ككاتبة ومخرجة، وهناك الكثير من الأمور المشتركة بين الفيلمين، وكلاهما يدور حول كاتبة شابة تترك المنزل، ولكن في هذا الفيلم، هي تعود إلى المنزل. سر روعة الفيلمين بعد إبداع "غيرويغ" هو الأداء المدهش من الفنانة الشابة "سرشا رونان"، ففي شخصية "ليدي بيرد" قدّمت واحداً من أقوى الأداءات في مسيرتها السينمائية، وها هي تعود بأداء أقوى وأجمل وأروع بشخصية "جو مارش".

منذ فترة طويلة لم أشاهد أداءً بهذه القوة لممثلة شابة، فقد أبدعت حقاً، فـ "رونان" ممثلة موهوبة جداً منذ أن كانت مُراهقة، حيث أدّت شخصية "برايوني" بشكل رائع في الفيلم الرائع "Atonement"، ونالت عنه ترشيحها الأول لجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة مساعدة، وهي في سن الـ 17.


الفنانة الجميلة "إيما واتسون"، دائماً ما أحب مشاهدتها في الأفلام الفتراتية، مثل الفيلم الرائع "Beauty and The Beast"، وقد قدّمت هنا واحداً من أجمل أدوارها من خلال شخصية "ميغ". النجمة "إليزا سكانلن" أيضاً قدّمت أداءً جميلاً بشخصية "بيث". الفنانة "لورا ديرن" أبدعت هي الأخرى بشخصية الأم، ولا أنسى الفنانة المبدعة "ميريل ستريب" التي أمتعتني بظهورها القصير وأدائها المذهل بشخصية العمة "مارش".


الفنان "تيموثي شالاميه" هو من أفضل الممثلين الشباب في الفترة الأخيرة، فدائماً ما يبهرني بأدائه، وفي هذا الفيلم قدّم شخصية "لوري" بشكل جميل ومختلف عن المعتاد، وقد أبدع حقاً. النجمة الصاعدة "فلورنس بيو" هي صاحبة الأداء الأقوى بعد "سرشا رونان"، فقد أدّت شخصية "إيمي" بشكل مدهش ومبهر للغاية، وهذه النجمة لم تظهر في الساحة إلا مؤخراً، ولكنها أثبتت موهبتها وقدراتها الرهيبة في تقمّص مختلف الشخصيات، وأتوقع لها مستقبلاً زاهراً إن استمرت على هذا النحو، والآن أنا أترقب أعمالها القادمة بكل شغف. بقية النجوم، بمن فيهم: "كريس كوبر" و"تريسي ليتس" و"بوب أودنكيرك" و"جيمس نورتون" و"لوي غاريل"، أيضاً قدّموا أداءً مميزاً.


ترشّح الفيلم لنيل 6 جوائز أوسكار، لأفضل فيلم وأفضل نص سينمائي مقتبس وأفضل ممثلة "سرشا رونان" وأفضل ممثلة مساعدة "فلورنس بيو" وأفضل موسيقى تصويرية وأفضل تصميم أزياء.

ما يجعل هذا الفيلم قريباً جداً من قلبي هو روح الألفة، والحب الفطري الصادق، والجو العائلي الحميمي، والشعور الجميل الذي يخلقه في نفسي، فأنا من عشّاق الأفلام الفتراتية الأدبية العائلية والرومانسية، ولذلك أنا أضمّه إلى القائمة العظيمة بجانب الفيلم العظيم "Pride & Prejudice" للمخرج المبدع "جو رايت"، والفيلم العظيم "Sense and Sensibility" للمخرج المبدع "أنغ لي".


لقد كنت مبتسماً طوال الوقت، وأنا أشاهد هذه التحفة الفنية، التي بهرتني وأدهشتني وأسَرَتْني، بصحبة الشقيقات "مارش"، كشعوري تماماً بصحبة الشقيقات "بينيت"، والشقيقات "داشوود". شكراً "غريتا غيرويغ". شكراً "جو رايت". شكراً "أنغ لي". شكراً "لويزا ماي الكوت". شكراً "جين أوستن".


في النهاية هذا الفيلم ليس اقتباساً للرواية بقدر ما هو حول الرواية نفسها، وما تنتهي به "جو" في كتابة روايتها لدى الناشر المتطلّب "داشوود"، هو خلاصة لكل ما شاهدناه. إنها تكتب الفيلم إلى نطاق الوجود، إنْ جاز التعبير، بالتحكم في الوقائع والمصائر المتعددة للشخصيات، حتى نرى الرواية تُطبَع، وتُخيَّط، وتُربَط بالجلد، ومن ثم تُسَلَّم إلى "جو"، كما لو كانت هي مؤلفة رواية "نساء صغيرات"، وليست "ألكوت". إنها تقف هناك وهي مبتسمة وفخورة وراضية، والسكينة تغمر قلبها، ونحن أيضاً.