الجمعة، 30 أكتوبر 2020

Sunset Boulevard 1950

 

ورم هوليوودي خبيث يتوغّل في أحشائنا وينخر عظامنا !!

Sunset Boulevard


 

عام 1950 كان عاماً حافلاً بفيلمين مدهشين، أحدهما يجسّد كواليس حياة المسرح، والآخر يجسّد كواليس حياة الأفلام، وكلاهما حقّق نجاحاً منقطع النظير على مستوى شباك التذاكر وفي الجوائز، ولكن التقدير الأكبر ذهب إلى فيلم المسرح، وأقصد بذلك التحفة العظيمة "All About Eve".

الفيلم الآخر هو "Sunset Boulevard" أو "جادة سانست"، للمخرج العظيم "بيلي وايلدر". الفيلم ليس هجوماً على هوليوود، ولا هو رسالة حب أيضاً. إنه يُظهر هوليوود وعالم الأفلام على حقيقته، حين يكون سكّان ذلك العالم مثل السلع، ويمكن التخلص منهم واستبدالهم كيفما يشاءون وفي أي وقت.


في بادئ الأمر يبدو الفيلم كما لو أنه يدور في أرض خيالية، حيث القصر المعزول، كالذي يجده والد "بيل" في فيلم "Beauty and The Beast"، أو قصر السيدة المخبولة "هافيشام" الذي يدخل إليه "بيب" في رواية "Great Expectations"، ولكنه شيئاً فشيئاً يتحول إلى كابوس مرعب. البطل هنا حين يجد قصراً في جادة سانست ويدخل إليه لا يقابل "الوحش" أو السيدة "هافيشام"!! إنه يقابل هلاكه المحتوم.

الكثيرون في هوليوود انزعجوا من جرأة "وايلدر" في هذا الفيلم، ليس لأنه يزيّف الواقع، بل لأنه عرض الحقيقة الناصعة على شاشة السينما ليراها العالم أجمع، في حين لا يبدو للوهلة الأولى أنّ "وايلدر" هو الشخص المناسب لكتابة وإخراج فيلم كهذا، فهو حينئذ لا يزال نوعاً ما دخيلاً على هوليوود، لأن جذوره تعود إلى يهود أوروبا، فقد هاجر إلى أمريكا بعد بزوغ قوة "هتلر" في أوج الحرب العالمية الثانية، بعد أن تم قتل والده وأسرته في المعسكرات من قبل النازيين.


لكن "وايلدر" أثبت جدارته كصانع أفلام مرموق، بمستوى يفوق مخرجي هوليوود الأصليين، بدايةً ككاتب نصوص، ومن ثم الإخراج بجانب الكتابة، وانطلاقته الكبرى كانت التحفة السينمائية العظيمة "Double Indemnity" في عام 1944، حيث كان واحداً من أروع أفلام الجريمة والإثارة، على نمط أفلام العظيم "ألفريد هيتشكوك"، وبعده بعام كتب وأخرج فيلم الدراما المميز "The Lost Weekend" محققاً الفوز بجائزتي أوسكار لأفضل إخراج وأفضل نص سينمائي، كما فاز الفيلم بجائزة أفضل فيلم، وحين شرع في فيلمه هذا كان قد قضى من الوقت ما يكفي في هوليوود لفهم طبيعة الأمور فيها، فبالتالي لاقى الاحترام والتقدير من الجماهير والفنانين والنقّاد.

الفيلم هو عبارة عن لوحة فنية لنجمة أفلام صامتة منسية، التي تعيش في عزلة في قصرها الكئيب والمتداعي في جادة سانست، وتعرض أفلامها القديمة عبر آلة العرض في غرفة السينما الخاصة بها، وتحلم بالعودة إلى النجومية، والمشاهد الافتتاحية للفيلم هي من أكثر المشاهد الراسخة في ذاكرة السينما.


تتتبّع الكاميرا الدراجات النارية وسيارات الشرطة إلى حين وصولها إلى ذلك القصر، حيث تطفو جثة رجل في بركة السباحة، ولكي نتعرف على هوية ذلك الرجل الميّت وقصته، يزوّدنا الفيلم بصوت الراوي الذي يسرد الأحداث قائلاً: "قبل أن تسمعوا الأخبار المحرّفة والمبالغ فيها، وقبل أن يكتب عنها محرّرو المقالات في هوليوود، ربما تودّون الاطّلاع على الوقائع والحقيقة الكاملة". صوت الراوي يستمر معنا طوال الـ 100 دقيقة القادمة.

"جو غيليس" هو كاتب نصوص سينمائية مغمور، ولا يمكنه العثور على عمل يكسبه لقمة العيش، وحين تتم مطاردته من قبل محصّلي الديون لمصادرة سيارته، يفلت منهم بالانعطاف عن الطريق، حتى يصل إلى ذلك القصر في جادة سانست.

يظن "جو" في البداية أنّ القصر مهجور، حيث يرى بركة السباحة فارغة من الماء، وملعب التنس في حالة يرثى لها، وكل شيء يبدو قديماً وبالياً، ولكن بعد التحقّق يكتشف أنه مأهول بالسكّان: نجمة الأفلام الصامتة "نورما ديزموند"، وخادمها المخلص "ماكس فون مايرلينغ"، بالإضافة لرفيقها القرد الذي مات للتو.


تلك هي "نورما"، التي كانت في زمنٍ مضى نجمة الجماهير الأولى، وأصبحت بعيدة عن الأضواء لأكثر من عقدين من الزمن، والآن أصبحت بعيدة عن عقلها وعلى حافة الجنون. حين يدخل "جو" إلى القصر، دافعه الأول والأهم تخليص نفسه من المأزق بشكل سريع، ولكن عندما يقابل "نورما" ويكتشف أنها يمكن أن تدرّ عليه مبلغاً محترماً من المال، يقوم برسم خطة، حيث أنّ "نورما" كتبت بنفسها نصّا سينمائياً لفيلم جديد يُفترض أن يكون مشروع عودتها الكبيرة لعالم النجومية، وترغب في تقديمه إلى المخرج "سيسيل بي ديميل" ليخرج الفيلم وهي البطلة.

في لمحة سريعة، يرى "جو" أنّ النص رديء وكارثي، فيعرض خدماته لمعالجته وتطويره، وبالطبع توافق "نورما"، وهي غارقة في أحلام العودة، ويقرر أخذ النص إلى شقته للبدء في العمل، إلّا أنّ "نورما" تصر على أن ينتقل للعيش معها في القصر، باعتباره بديل مناسب لقردها الميّت، في حين يعتبره "ماكس" كلباً ضالّاً، وسرعان ما يعيش "جو" حياة مترفة، وتتم تلبية كافة احتياجاته، ويشعر بالراحة، إلى حين يصبح الوضع غير مريح بتاتاً.


الفنانة "غلوريا سوانسون" في أروع أداء لها على الإطلاق، بشخصية نجمة الأفلام الصامتة "نورما ديزموند"، بمخالبها البشعة، وتكلّفها المسرحي، وأحلامها البالية. الفنان المبدع "وليام هولدن" يجسّد بتلقائية ودون إدراك شخصية الكاتب الشاب "جو غيليس"، الذي يسمح لـ "نورما" أن تحتفظ به. هناك أيضاً أداءٌ قوي يغذّي الفيلم ويمنحه رنيناً عاطفياً ويجعله أكثر واقعية بالرغم من أجوائه القوطية، وأقصد بذلك أداء الفنان "إريك فون ستروهايم"، بشخصية "ماكس فون مايرلينغ"، الخادم الشخصي المخلص لـ "نورما".

يتوغّل الفيلم في أحشائنا كالورم الخبيث، وينخر عظامنا، برصده لواقعية تفوق الواقع لقصة هوليوودية حول نجوم الأفلام الصامتة، فـ "غلوريا سوانسون" تجسّد نفسها فعلياً من خلال شخصية "نورما"، فهي أيضاً كانت نجمة عريقة في الأفلام الصامتة حتى مطلع الثلاثينات، وظلّت بعيدة عن الأضواء لنحو 16 عاماً حتى تم اختيارها للمشاركة في هذا الفيلم.


"إريك فون ستروهايم" بشخصية "ماكس"، الذي كان واحداً من أعظم مخرجي الأفلام الصامتة في وقتٍ مضى، والذي وصل به الحال الآن إلى العمل كخادم شخصي للمرأة التي كانت زوجته والتي أخرج أفلاماً من بطولتها.

في محاكاة صادمة للواقع، "إريك فون ستروهايم" كان بالفعل مخرجاً في وقتٍ مضى، مثل شخصية "ماكس" التي يجسّدها في الفيلم، وقد أخرج فيلماً من بطولة "غلوريا سوانسون" في عام 1932، وهو فيلم "Queen Kelly". الفيلم لم يحقق نجاحاً ملحوظاً، مقارنة بأفلامه الناجحة في فترة العشرينات، مما جعله يعتزل الإخراج ويتجه للتمثيل في أدوار مغمورة جعلته منسياً.

تقوم "نورما" بعرض أحد أفلامهما القديمة لـ "جو"، و"ماكس" يتولّى تشغيل آلة العرض. المشهد الذين نراه هو من فيلم "Queen Kelly"، ولوهلة من الزمن، "غلوريا سوانسون" و"إريك فون ستروهايم" يجسّدان نفسيهما بكل بساطة وواقعية، في فيلمهما الذي مضى عليه 18 عاماً. لاحقاً عندما ينتقل "جو" للسكن في القصر، يريه "ماكس" غرفة نوم مزخرفة ويقول له: "هذه كانت غرفة الزوج".

إنّ "ماكس" يشير إلى نفسه، فقد كان أول زوج لـ "نورما" من بين أزواجها الثلاثة، وكان يحبها كثيراً لدرجة أنه كان على أتم الاستعداد للعودة إليها كـ "خادم شخصي"، ليغذّي أوهامها، ويكتب بنفسه مئات الرسائل ليملأ بريدها الخاص برسائل المعجبين. إنّه يكرّس نفسه وحياته من أجلها.


"بيلي وايلدر" وزميلاه الكاتبان "تشارلز براكيت" و"دي إم مارشمان جونيور" كانوا يدركون تماماً أصول شخصيات الفيلم، والأمر المثير للاهتمام هو الواقعية المفرطة التي تجرّأوا على عرضها للجمهور. لقد استخدموا أسماءً حقيقية لممثلين موجودين آنذاك، مثل "غريتا غاربو" و"داريل زانوك" و"تايرون باور" و"ألان لاد"، بالإضافة لظهور خاص لـ "هيدا هوبر"، التي تجسّد نفسها في مشهد مهم في الفيلم، والتي تعتبر أشهر ناقدة سينمائية، وموهبتها هي التشهير الوحشي بالمشاهير وإظهار فضائحهم وإثارة الفتنة بينهم.

أيضاً هناك مشهد مضحك ومبكي، حين نرى 3 نجوم حقيقيين يجسّدون أنفسهم: "باستر كيتون" و"آنا كيو نيلسون" و"إتج بي وارنر"، وكانوا في السابق من أبرز نجوم الأفلام الصامتة، والآن هم يجلسون مع "نورما" ويلعبون لعبة البريدج. "جو" يعبّر عن المشهد بتعليق لاذع، حيث يصفهم بـ "تماثيل الشمع".


تتجسّد الواقعية أيضاً في زيارة "نورما" إلى ستوديوهات شركة باراماونت للإنتاج لمقابلة المخرج الكبير "سيسيل بي ديميل"، الذي يجسّد نفسه، والذي كان حينها يصوّر فيلماً حقيقياً، وهو "Samson and Delilah". إنها يناديها بـ "الزميلة الصغيرة"، كما كان يناديها وهي "غلوريا سوانسون" منذ زمن طويل.

"سيسيل بي ديميل" كمخرج و"غلوريا سوانسون" كممثلة بطلة قدّما معاً 6 أفلام في فترة السينما الصامتة ما بين عام 1919 وعام 1921، وفي هذا الفيلم، كما في الواقع، نشعر بصدق أدائهما لتاريخ عريق انطوى.

هذا الفيلم بكل تأكيد هو أفضل فيلم حول كواليس أو كوابيس الحياة الهوليوودية بجرأته اللاذعة، وحين تقوم "نورما" باستقبال "جو" في قصرها، يخبرها: "كنتِ نجمة كبيرة"!! "نورما" ترد قائلة، في واحدة من أشهر العبارات في تاريخ السينما: "أنا كبيرة، وإنّما الأفلام باتت صغيرة".


حبكة الفيلم أتاحت لـ "جو" عدّة أسباب لقبول عرض "نورما" لوظيفة كاتب نصوص سينمائية. إنه مفلس ومتخلّف عن دفع إيجاره، وسيارته على وشك أن تُصادَر، وهو لا يرغب في العودة إلى وظيفته الحالية كصحفي، وفي نفس الوقت هو لا يريد أن يكون بائع هوى كي يعيش مع "نورما".

إنّ شخصيته تمر بعدّة تقلّبات، ونراه ضعيفاً ومهزوزاً، فهو يقول أنه لا يريد قبول هدايا "نورما"، لكنه يأخذها، كعلب السجائر الذهبية، والساعة الفاخرة، والملابس، والأحذية، ونحن نعرف أنه يدّعي أنه فوجئ ليلة رأس السنة الجديدة عندما أقامت "نورما" حفلة خاصة لهما فقط.

إنّه بالتأكيد يدرك منذ البداية أنها لا تريد كاتباً وحسب، بل أيضاً تريد شاباً يشعرها أنها لا تزال جذّابة. لنكون منصفين، الحياة مع "نورما" ليست كلها سيئة أو مملّة. إنها ظريفة أحياناً بتكلّفها المسرحي الزائد، وتمتلك خفّة دم تؤهّلها لتقدّم عرضاً مسرحياً ممتعاً لـ "جو"، وتقليدها مشهداً من أفلام "تشارلي شابلن".


هناك أيضاً شخصية مهمة، والتي تمثّل نافذة الأمل أو روح الحياة للفيلم، ولـ "جو". إنها الكاتبة الشابة "بيتي"، التي تعمل في قسم النصوص بشركة باراماونت للإنتاج، والتقى بها "جو" في وقت مبكّر من الفيلم، وهي مخطوبة وعلى وشك الزواج من صديقها "آرتي"، ولكن حين يبدأ "جو" بالتسلّل من القصر للتعاون معها في كتابة نص سينمائي جديد، هي تقع في حبه. إنه منجذب نحوها، لكنه يتراجع، ربّما لأنه لا يريدها أن تكتشف الحقيقة، أو أنه اعتاد أسلوب الحياة مع "نورما" في القصر، أو أنها وبكل بساطة وقع تحت سلطتها وقبضتها.

حاز الفيلم بجدارة على 3 جوائز أوسكار لأفضل نص سينمائي وأفضل موسيقى تصويرية وأفضل تصميم مواقع، وترشّح لنيل 8 جوائز أخرى لأفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل تصوير وأفضل مونتاج وأفضل ممثل "وليام هولدن" بشخصية "جو" وأفضل ممثلة "غلوريا سوانسون" بشخصية "نورما" وأفضل ممثل مساعد "إريك فون ستروهايم" بشخصية "ماكس" وأفضل ممثلة مساعدة "نانسي أولسون" بشخصية "بيتي".


قد يكون النص السينمائي لهذا الفيلم من أقوى النصوص على الإطلاق، فخط سير الأحداث رائع ومشوّق ومليء بالغموض، والحوارات بين الشخصيات ترسخ في الذاكرة، فكم هي بليغة ومدهشة. الموسيقى التصويرية للمبدع "فرانز واكسمان" جعلت الفيلم أكثر روعة بانسجامها مع الأحداث وقد عزّزت عنصر الغموض والتشويق، بالإضافة للتصوير الخلّاب ومواقع التصوير والمونتاج المتقن.

هذا الفيلم هو بداية الانطلاقة للفنان المبدع "وليام هولدن"، الذي أعتبره من أفضل الممثلين في هوليوود، وقد شارك بعده بـ 3 أعوام في فيلم "Stalag 17" مع المخرج "وايلدر" أيضاً، محقّقاً الفوز بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل، وبعده بعام شارك معه في الفيلم الرائع "Sabrina"، وصار من أبرز نجوم هوليوود مع حصيلة من الأفلام الرائعة والمميزة.


بعد هذا الفيلم العظيم زادت شعبية "وايلدر" في هوليوود، وقد قدّم روائع الأفلام، والأمر المميز هو أنه لم يمسك خطاً واحداً أو نمطاً معيناً في أفلامه، فقد خاض عدّة تجارب ونجح في معظمها بامتياز، فهناك فيلم الجريمة والغموض "Witness For The Prosecution" المقتبس من مسرحية للكاتبة "أغاثا كريستي"، الذي أعتبره أروع فيلم له على الإطلاق، ومن أروع ما شاهدت في حياتي.

أيضاً هناك الفيلم الدرامي والرومانسي والكوميدي الجميل والمنعش "Sabrina"، والفيلم الكوميدي الأروع بالنسبة لي على الإطلاق "Some Like it Hot"، وأخيراً التحفة الأوسكارية "The Apartment". حصيلة "وايلدر" في الأوسكار هي 21 ترشيحاً ككاتب ومخرج ومنتج، محقّقاً الفوز 6 مرات، بالإضافة إلى جائزة أوسكار خاصة بعام 1988.


لقد تقاعد "وايلدر" عن العمل في عام 1981، وكان قد قرّر العودة لإخراج فيلم "Schindler’s List" في عام 1993، ولكن الذكريات الأليمة التي مرّ بها في شبابه هو وعائلته أثناء الحرب العالمية الثانية والهولوكوست منعته من العمل، فتم إسناد المهمة للمخرج الكبير "ستيفن سبيلبيرغ"، والذي أبدع فيه حقاً، حتى أصبح أفضل فيلم له على الإطلاق. توفي "وايلدر" في عام 2002، عن عمر 96 عاماً

"نورما" تعيش كل لحظة كممثلة تقدّم أداءً، والعالم بالنسبة لها أشبه بخشبة مسرح أو موقع تصوير، فحياتها تحوّلت إلى ميلودراما، وإنْ كان كل ذلك في عقلها فقط، فهي ترى نفسها دائماً أمام الجمهور. من نواحٍ عديدة، تمثّل سلوكياتها اليومية محاكاة ساخرة وغريبة للتمثيل السينمائي الصامت، وهذا ما أضافته "غلوريا سوانسون" في أدائها العظيم، حتى يتحقق حلمها أخيراً وهي تنزل من السلالم، والكاميرات موجّهة نحوها، وأفراد الطاقم الفني والتقني ينظرون إليها، وهي تؤدي مشهداً من فيلمها الجديد "سالومي" مع المخرج "سيسيل بي ديميل"، قائلةً له: "سيد ديميل، أنا جاهزة للقطتي المقرّبة".



السبت، 17 أكتوبر 2020

The Leopard 1963

 

قنبلة عاطفية مدمّرة، تفجّرت، وانتشرت شظاياها، ووصلت إلينا !!

The Leopard

 

الأمر كان يبدو وكأنني سافرت إلى عالم آخر وزمن آخر، وأنا أعيش أجواء جميلة وساحرة وخلّابة، حيث هذا ما شعرت به وأنا أشاهد الفيلم الإيطالي العظيم "الفهد". إنه مختلف عن أي فيلم آخر، بروحه وأسلوبه وطريقة انسيابه في العقل والقلب.

يمكنني أن أصف هذا الفيلم مثل ما أصف لكم زيارتي لمتحف عريق، فمشاهدته أشبه برحلة لا تُنسى في ربوع متحف يعجّ بالآثار والتحف والفن والتاريخ، وقد استمتعت كثيراً بهذه الرحلة المدهشة، التي ثقّفتني فنياً وتاريخياً وسينمائياً. لم أستغرب أبداً حين علمت أن هذا الفيلم هو الفيلم المفضّل لدى المخرج الكبير "مارتن سكورسيزي"، ويعتبره مصدر الإلهام له كصانع أفلام حين شاهده وهو فتى مراهق.


الكاتب "جوزيبي توماسي دي لامبيدوزا"، الذي يعتبر من الأرستقراطيين النبلاء في صقلية، كتب الرواية من صميم قلبه حول جده الأكبر، ولم يكن هناك مخرج أفضل من "لوتشينو فيسكونتي" لتولّي مهمة إخراج الفيلم لكونه أيضاً ينتمي لطبقة الأرسقراطيين ومن أقرباء "لامبيدوزا".

لكن هناك مسألة مهمة أيضاً. من سيؤدي دور البطولة في الفيلم؟ يجب أن يكون ممثلاً إيطالياً حقيقياً والأفضل أن يكون من الأرستقراطيين. لم يحدث هذا الأمر. شركة فوكس الأمريكية اشترطت على المخرج "فيسكونتي" إسناد دور البطولة لممثل أمريكي شهير من أجل تحقيق الأرباح وزيادة شعبية الفيلم، وإلّا فلن يتم تمويل الفيلم.

أصيب "فيسكونتي" بإحباط شديد، وشعر أن الفيلم سيتدمّر بوجود ممثل أمريكي، حيث سيقتضي الأمر أن تتم دبلجة حواراته لاحقاً من قِبَل ممثل إيطالي آخر، وهذا الأمر ليس بجديد أو غير مألوف في الأفلام الأوروبية، فقد شارك العديد من الممثلين الأمريكيين في أفلام إيطالية وأوروبية وتمّت دبلجة حواراتهم بالإيطالية، ولكن في هذا الفيلم بالتحديد يبدو الأمر غير منطقياً، لأنه ليس فيلم أكشن أو كوميدي، فهو فيلم إيطالي حتى النخاع، ويدور حول طبقة الأرسقراطيين في صقلية، والبطل هو أمير سالينا.


في نهاية المطاف تم إسناد دور البطولة للفنان الأمريكي "بيرت لانكيستر"، واعتُبِر ذلك الأمر مهزلة لدى الإيطاليين، وكذلك المخرج "فيسكونتي"، الذي أثّر ذلك على علاقته معه أثناء التصوير الذي استمر لمدة 5 أشهر، ففي الأسابيع الأولى كان الوضع متوتراً بينهما، و"فيسكونتي" لم يكن لطيفاً مع "لانكيستر"، لأنه فُرِض عليه، وهذا ما جعل "لانكيستر" يواجهه أمام الجميع لتقبّل الأمر الواقع، ومن هنا أُعجِبَ "فيسكونتي" به وبشغفه وبحرصه على القيام بأفضل ما لديه، فأصبحت علاقتهما قوية ومتينة حتى اكتمال الفيلم.

حين عُرِض الفيلم لأول مرة في أمريكا، تم اقتطاع 40 دقيقة من مدته من قبل شركة فوكس، وقد شوّهوه بلا رحمة، وتمّت دبلجته للإنجليزية بشكل سيئ، وهذا الأمر أثار استياء "فيسكونتي" و"لانكيستر". تخيّلوا أن "لانكيستر" هو ممثل أمريكي أدّى دوره، ثم تمّت دبلجة حواراته بالإيطالية، ثم مجدداً تمّت دبلجتها بالإنجليزية، وليس بصوته، بل بصوت ممثل آخر!!


صرّح "لانكيستر" بعد سنوات طويلة أنّ هذا الفيلم هو أفضل عمل له على الإطلاق، إذ هو يتذكر ما مرّ به حين طُلِب منه أداء دور أمير سالينا في الفيلم، ورفض بحجّة أن هذا الدور يخص ممثلاً إيطالياً حقيقياً، ولكن لا شيء يمكنه أن يمنع القدر، وتم اقتراح الدور على ممثل روسي، لكنه كان كبيراً في السن، ثم تم اقتراح الدور على الفنان البريطاني الكبير "لورانس أوليفييه"، لكنه كان مشغولاً جداً. عادت الشركة مرة أخرى إلى "لانكيستر" لإقناعه بقبول الدور، وحين وافق أخيراً، رفضه "فيسكونتي" قائلاً: أوه، لا! راعي بقر!".

لأتحدث معكم الآن عن الفيلم بنسختة الكاملة الأصلية والغير مدبلجة، الذي عُرض لأول مرة في إيطاليا بعام 1963 ولاحقاً في مهرجان كان السينمائي، محقّقاً بالفوز بجائزة السعفة الذهبية بكل جدارة واستحقاق، وفي عام 1980 بعد 4 سنوات من وفاة المخرج "فيسكونتي"، أشرف المصور السينمائي "جوزيبي روتونو" على عملية ترميم الفيلم، والحصيلة كانت فيلماً مدته 185 دقيقة، والذي لا يزال أقصر من النسخة الأصلية التي تصل مدتها إلى 205 دقائق.

تم إصدار الفيلم قبل سنوات من قبل شركة كرايتيريون المختصة في الأفلام النخبوية والمميزة، وذلك بنسخة بلوراي رائعة ومرمّمة كلياً بالصوت والصورة، ومن حسن حظي أنني شاهدت هذه النسخة، وهي أفضل نسخة موجودة في زمننا الحاضر.


تدور أحداث الفيلم في منتصف القرن التاسع عشر في جزيرة صقلية، المستقلة حديثاً من إيطاليا، حيث نرى الطبقة الأرستقراطية تحتضر وتتلاشى مع الزمن ولا تقوى على الاستمرار، ويتجسّد ذلك في أمير سالينا، "دون فابريتزيو"، الملقّب بـ "الفهد". إنه يشاهد نهضة الفلاحين وارتقائهم اقتصادياً، وهذا ما يشكّل تهديداً لكل ما آمن به وعاش عليه هو وعائلته وأسلافه.

الفلاح السابق "دون كالوجيرو" أصبح بغاية الثراء والسلطة، وصار مصدر إلهام للفلاحين والشعب، والأمير "فابريتزيو" يرفض تماماً المساعدة في بناء صقلية جديدة، لكن ابن أخيه "تانكريدي"، أمير فالكونيري، ينجرف مع التيار ويؤمّن مركزه الاجتماعي والسياسي بالزواج من "أنجليكا" الجميلة، ابنة "دون كالوجيرو".


اتّضح في النهاية أن اختيار "لانكيستر" كان قراراً موفّقاً وحكيماً، فهو فنان موهوب ومبدع وفائز سابق بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل، وقد جسّد شخصية الأمير بشكل مذهل، كرجل متمسّك بأسلوب حياته ومدرك تماماً أن الأمر سينتهي. إنه أرستقراطي نبيل بالفطرة، ووُلِد لتكون له سلطة، ونحن ندرك شعوره حين نشاهده ويتحدث مع صديقه الكاهن "بيروني".

في بداية الفيلم نرى مظاهر الحياة الأرستقراطية مع الأمير وزوجته وأبنائه وبناته، وهم في الكنيسة، وفي قصرهم الفخم، وفي رحلاتهم، ثم تصل الثورة التي قادها "غاريبالدي" إلى صقلية لتحريرها، وينضم "تانكريدي" للقتال، ليعود لاحقاً كجندي في جيش الحاكم الجديد "فيكتور إيمانويل".



حين يصل الأمير إلى بلدة دونافوغوتا، يستقبله العمدة "دون كالوجيرو"، ذلك الفلاح إلى أصبح تاجراً ثرياً، والذي يشعر أن ثروته جعلته شخصاً مهماً، وهذا ما يجعل الأمير مرغماً على التقرّب منه، إن كان الأمر يتطلّب إعلان الزواج الرسمي بين "أموال الفلّاح" و"عائلة الأمير".

يقوم الأمير بدعوة "دون كالوجيرو" لتناول العشاء في قصره، ونشاهد على وجهه ملامح السعادة والذهول، بينما الأمير يشعر بالألم والغيظ. لم يحضر ذلك الفلاح زوجته المهترئة معه، بل ابنته الجميلة "أنجليكا"، التي تصقع "تانكريدي" والجميع بجمالها الآسر، ويصبح الأمر محتماً على الأمير للمسارعة في ترتيبات زواج "تانكريدي" و"أنجليكا".


الأمر المبهر في إخراج "فيسكونتي" والنص السينمائي الرهيب الذي كتبه مع 4 آخرين، ليس فيما هو مكتوب، بل فيما ما هو محسوس، بتعاطفنا مع الأمير دون أن ينطق بكلمة، ومشاركتنا معه ندمه وحسرته على أسلوب حياته المتلاشي، والأمر المتعارف لدى الجميع في هذا العالم، قديماً وحديثاً، هو أن الطبقة الأرستقراطية تستغل الطبقة العاملة، ولكن الأمير نفسه هو رجل فخور وصالح وطيب القلب، ويحترم العادات والتقاليد ويؤمن باستمراريتها، وهذه معضلته.

إنه رجل من الزمن العريق، كالذي نقرأ عنه في الروايات والقصص، وهو يتعبر "أنجليكا" جذابة، مثلما يعتبرها "تانكريدي" كذلك، ولكن "فيسكونتي" برؤيته البصرية المذهلة ينقل لنا ذلك بحوارات وتلميحات روحية. إنه يوجّه الممثلين للاستعانة بعيونهم، وإيماءة الرأس، وكل مفردات لغة الجسد.



لقد أبدع "بيرت لانكيستر" في تقمّص الشخصية، وقد أثبت موهبته أمام "فيسكونتي" والعالم أجمع، بالرغم من أنّ حواراته كانت مدبلجة بالإيطالية تماشياً مع اللغة الناطقة للفيلم، إلّا أن ذلك لم يمنعه من التألّق في شخصيته. الأمر المثير للاهتمام هو أن البطلين الآخرين في الفيلم أيضاً تمّت دبلجة حواراتهما بالإيطالية، وأقصد بذلك الفنان الفرنسي الجميل "ألان ديلون"، الذي أدّى شخصية الأمير "تانكريدي" بإبداع، وهذا هو التعاون الثاني بينه وبين "فيسكونتي"، بعد الفيلم المأساوي "Rocco and His Brothers"، الذي يعتبر من الأفلام الإيطالية المهمة.

والبطلة الأخرى الفنانة "كلاوديا كاردينالي" أيضاً تمّت دبلجة حواراتها، بالرغم من أنها إيطالية من جهة والدها، إلّا أنها لا تجيد اللغة لكونها وُلدت وترعرعت في تونس، وعاشت مع والدتها الفرنسية، وقد كانت مناسبة جداً لشخصية "أنجليكا" وهي في قمة جمالها آنذاك، فقد أبدعت فعلاً. بقية الممثلين قدّموا أداءً جميلاً أيضاً.

من أسرار روعة الفيلم كذلك الموسيقى التصويرية للمبدع  "نينو روتا"، التي كانت ساحرة ورقيقة وخلّابة، وبشكل استثنائي لم أشعر أنها موسيقى تصويرية لموسيقار حديث، إذ كانت تبدو كالسيمفونيات الكلاسيكية العظيمة لـ "تشايكوفسكي" و"رخمانينوف" و"كورساكوف"، فقد أسرتني حقاً.

الفيلم ككل يبدو وكأنه متحف سينمائي بأشخاصه وأشيائه، فمواقع التصوير والديكور كانت ساحرة، والأزياء في منتهى الروعة، وكذلك بقية الأمور الفنية الأخرى كالتصوير والمونتاج. من النادر جداً أن أشاهد فيلماً مدته تزيد عن 3 ساعات دون أي شعور بالملل، برغم برودة الأحداث، علماً بأن هناك الكثيرين من الأشخاص الذين سيعتبرون هذه الفيلم خيبة أمل شديدة، فهو ليس فيلماً للجمهور العام، بل لمن يشعرون بالفن ويتذوقونه بحُلوِه ومُرِّه. من المؤسف أن الفيلم لم ينل التقدير من جوائز الأوسكار، فقد ترشّح لنيل جائزة واحدة فقط لأفضل أزياء، ولكنه اليوم يحظى بتقدير معظم صنّاع الأفلام والنقّاد والجماهير النخبوية، كما أن المخرج الإيطالي المبدع "جوزيبي تورناتوري" يعتبره الفيلم المفضّل لديه على الإطلاق.


أهم وأجمل مشهد في الفيلم مدته تصل إلى 45 دقيقة، ويدور في قاعة حفلات كبيرة، وكان بالفعل مشهداً مدهشاً ومؤثراً وآسراً للحواس، ومن أقوى المشاهد في تاريخ السينما، فهو يلخّص فكرة الفيلم بأكملها، ولا يتضمن سوى حوارات محدودة.

الحفلة الراقصة هي آخر احتفال بهيج بالعصر الذي شارف على الموت، وقد أحضر "فيسكونتي" أفراداً فعليين من العائلات الصقلية القديمة النبيلة كضيوف في الحفلة، وفي وجوههم نرى تاريخاً لا يمكن تمثيله، بل يتجسد من خلالهم. الأوركسترا تعزف لـ "فيردي"، والشباب والشابات يرقصون باستمرار وهو سعداء ومبتهجين، وكبار السن يراقبونهم بعناية، مع مؤامرات مستقبلية لعقود زواج محتملة.


الأمير يتحرك مثل الظل، والكاميرا تتبعه من غرفة إلى أخرى، وتدخلنا في أفكاره ورغباته وحزنه، و"فيسكونتي" واثق تماماً أن "لانكيستر" يمكنه أن يجسّد كل مشاعر الأمير بنظراته وتعابيره وحركة جسمه، فيطيل المشهد حتى ننغمس فيه كلياً وننفصل عن الواقع.

في ذلك المشهد، يجعلنا "فيسكونتي" ندرك لماذا نحن نشاهد الأفلام. لقد خضنا وعشنا بما فيه الكفاية لنعرف شخصية الأمير وأفكاره، والآن ندخل، دون إدراك منّا، إلى مشاعره. السينما في أفضل حالاتها يمكن أن توهمنا بأننا نعيش حياة أخرى، وهذا ما يحدث هنا حقاً.

عندما يرقص الأمير مع "أنجليكا"، نحن نشاهدهما وهما يرقصان، وندرك أموراً كثيرة، نحن نعرفها، وهما يعرفانها. انظروا إليهما وهما يومئان برأسيهما، وكيف ينظران إلى بعضهما، وكيف ينظران إلى الآخرين، وكيف ينظر الآخرون إليهما.


رقصة الأمير معها هي اعتراف بالفناء والتلاشي. في ظروف أخرى، كان يمكن أن يحصل على هذه المرأة، ويعرف كيف سيتعامل معها، ويجعلها زوجته وأم لأبنائه، لو أنه عرفها في شبابه.

هل حقاً لو كان شاباً لتزوجها؟! لا أعتقد ذلك، لأنه الأمير "دون فابريتزيو" وهي ابنة الفلّاح. ما قدّمه لنا "فيسكونتي" في ذلك المشهد الطويل كان عبارة عن قنبلة عاطفية مدمّرة، تفجّرت داخل قلبه، وانتشرت شظاياها، ووصلت إلينا.