الجمعة، 21 يناير 2022

A Hero 2021

 

مثل كرة من الثلج تتدحرج عبر المنحدر لتكبر وتكبر وتدمّر كل ما يأتي أمامها..

A Hero

 


بطلُ فيلم "بطل" يبدو بطلاً منذ اللحظة الأولى التي نراه فيها بمظهره الجذّاب، ولكن كل ذلك سيتغير، وليس فقط مظهره، بل كيف ننظر إليه. مثل كل البشر في حياتنا، وكل ما نعتقد أننا نعرفه عنهم، يتغيرون باستمرار أمام أعيننا.

هذا الفيلم هو أفضل فيلم للكاتب والمخرج الإيراني المبدع "أصغر فرهادي" منذ فيلم "A Separation" الحائز على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي في عام 2011. الناس يفعلون الشيء الصحيح ، ثم الشيء الخطأ ، ثم الأشياء الصحيحة لأسباب خاطئة أو الأشياء الخاطئة لأسباب خاطئة حتى. هكذا هم البشر، وهكذا هم شخصيات "فرهادي". إنهم لا يدركون ما يفعلونه لأن جانبهم الجيد لا يعرف ما هو الجانب السيئ لديهم.



ما يميّز أفلام هو أنها واقعية بشكل مفرط، ولا نجد في أفلامه شخصيات شريرة، بل شخصيات عادية مثلي ومثلكم. إنهم يتدافعون للهروب من الأزمات القانونية والأخلاقية التي يقعون بها، ويسعون للتوفيق بين مصلحتهم الذاتية ومفاهيمهم المتعثرة عن الصواب والخطأ.

مثلما لا توجد في أفلامه شخصيات شريرة، أيضاً لا توجد شخصيات بطولية، ولذلك عنوان الفيلم "بطل" يضعنا كمشاهدين على المحك ونحن نستكشف مع "فرهادي" الحبكة الساخرة والملتوية والمنطوية في عنوانه، وكيف يجعلنا نتساءل بشكل عميق عن مفهوم البطولة.

"فرهادي" يبدأ فيلم "بطل" مع البطل نفسه وهو يصعد على سلالم لا نهاية لها، وهذا المشهد الافتتاحي يحاكي بشكل عميق وذكي الصعود الشاق لبطلنا "رحيم" على سلالم الحياة. إنه شاب موهوب في فن الخط والرسم، وهو خارج السجن في إجازة لمدة يومين. إنه قابعٌ في السجن بسبب عجزه عن سداد ديْنٍ كبير، حيث تدهورت حياته حين قام شريكه بالهرب من البلاد بالمال الذي اقترضاه معاً لبدء عمل تجاري.


الفنان "أمير جديدي" قدّم أداءً مذهلاً جداً بشخصية "رحيم" بملامحه الخجولة والحمقاء. إنه يُبدي تفاؤلاً جذّاباً بالرغم من وضعه المزري، وبكل تأكيد نحن نتعاطف معه فوراً، والمبدع "فرهادي" يشيّد الفيلم بأكمله، مشهداً تلو الآخر، حول هذا الأداء المذهل من "جديدي".

إنّ "رحيم" مصمّم على تسديد ديونه بأيّة طريقة ممكنة، وبشكل غير متوقع وكأنما حدثت معجزة لإنقاذه من هذا المأزق، تعثر خطيبته "فرخونده"، التي ينوي الزواج منها بعد قضاء فترة عقوبته، على حقيبة يد مفقودة تحتوي على عدد من العملات الذهبية.

بالطبع، السؤال الذي يراودنا كمشاهدين هو: هل سيقوم "رحيم" ببيع العملات الذهبية وتسوية أموره مع الدائن لكي يخرج من السجن؟ "رحيم" فعلياً يتساءل مثلنا، ووصل به الأمر إلى معاينة العملات الذهبية في أحد متاجر الذهب لمعرفة قيمتها النقدية، إلا أنه في نهاية المطاف يفعل شيئاً أكثر نبلاً من ذلك، إذ يعيد الحقيبة ومحتوياتها القيّمة إلى امرأة مصرّة على أنها صاحبة الحقيبة. "رحيم" كان أمام خيارين صعبين: الأول هو فعل الشيء الصحيح الذي لن يفيده، والثاني هو فعل الشيء الخاطئ الذي سيفيده، ولكن "فرهادي" يزوّده بخيارٍ ثالث مثير للاهتمام: "فعل الشيء الصحيح الذي لن يفيده، قد يفيده أكثر مما تتصوّر".



هنا تبدأ الحبكة الفرهادية الملتوية التي أهّلته ليصبح أفضل صانع أفلام في الشرق الأوسط بلا منازع، ومن أفضل صنّاع الأفلام في تاريخ السينما. إنه عبقري في كتابة نصوصه من صميم الواقع وإخراجها إلى الشاشة بشكل مدهش، مثل تحفته العظيمة "A Separation" وفيلمه الرائع "Fireworks Wednesday" ومؤخراً فيلمه الأسباني "Everybody Knows" وبقية الروائع.

"فرهادي" وهو يكتب نصوصه أشبه برجل يسير على جبل جليدي ويصنع كرة صغيرة من الثلج، ويرميها لتتدحرج عبر المنحدر لتكبر وتكبر وتدمّر كل ما يأتي أمامها. في فيلم "بطل" هنا تماماً يقوم "فرهادي" برمي كرة الثلج الصغيرة، متجسّدةً في "رحيم" نفسه.



ما تبدو وكأنها حكاية أخلاقية بسيطة، شيئاً فشيئاً تتحول إلى معضلة فلسفية معقدة جداً. ذلك العمل النبيل الذي قام به "رحيم" يجعله محط أنظار الجميع، حيث يظهر على شاشة التلفزيون وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفعلياً أصبح بطلاً في نظر الجميع، بمن فيهم إدارة السجن.

لكن هل كانت دوافعه نبيلة حقاً؟ الدائن "بهرام" لا يعتقد ذلك، والفيلم يصوّر لنا هذه الشخصية ببراعة على أنها المصدر الرئيسي للبؤس والشقاء في حياة "رحيم". إن "بهرام" غير متعاطف أبداً في سحب القضية، ولا يقبل بالتفاوض على تسوية الديْن بسهولة بالرغم من محاولات "رحيم" اليائسة. مع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك مسوّغ لأفعال "بهرام" إنْ نظرنا إلى الأمور من جانبه واستشعرنا معاناته، ولهذا أؤكد مجدّداً أنه لا يوجد أشرار في أفلام "فرهادي".



هل يجب الاحتفاء بـ "رحيم" وتمجيده وجعله بطلاً مشهوراً في الإعلام لمجرّد أنه قام بعملٍ نبيل يفعله أي شخص طبيعي؟ مع تكشّف أحداث الفيلم، قد تكون هناك حقاً هناك بعض الدوافع الخفية والحسابات الذكية وراء عمله النبيل، فالعملات الذهبية لا يمكن بقيمتها تسديد ديونه بالكامل على أيّة حال، فربما كان من مصلحة "رحيم" فعلاً القيام بالشيء الصحيح، إذ أن ذلك يجذب انتباه مؤسسة خيرية، وتبدأ في جمع التبرعات نيابة عنه، وهناك أيضاً مسألة ابن "رحيم" الصغير، الذي يعاني من التلعثم وصعوبات في النطق، وإظهاره على الملأ تبدو كمحاولة فاضحة لاستمالة مشاعر المجتمع.

جزء من تألّق الفيلم يكمن في أسلوبه العبقري في طرح الشكوك والتساؤلات حول مفهوم العمل النبيل. ما فعله "رحيم" أو "كرة الثلج" كانت له عواقب غير متوقعة، مثل فيروس كورونا الذي يتحوّر وينتشر ويلتقطه الجميع.



بينما يواصل "فرهادي" زج جميع الشخصيات في مأزق "رحيم" المحفوف بالمخاطر بشكل متزايد، يكشف لنا رسائله المبطّنة حول ظلم السجناء المدينين في إيران، وأيضاً تأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وهوَس المجتمع بالخير والشرف. قصة "رحيم" هي استثمار ينتفع به الجميع، سواءً الإعلام أو إدارة السجن أو المؤسسة الخيرية.

أكثر ما تأثّرت به في هذا الفيلم هو مفهوم البطولة والنفاق فيها، وكيف يبتلعها مجتمع ساذج بأكمله دون وعي وإدراك، ومع ذلك ، فإن الجزء الأكثر روعة في هذا الفيلم المدهش هو تناوله للطبيعة البشرية، وموهبة البشر المبهرة في خداع الذات، وشغفهم في الوصول إلى قمة الفضيلة، وقدرتهم على التفوّه بالأكاذيب وتصديقها، والغموض المُطلق لدوافعهم.


لقد تمكّن "فرهادي" مرة أخرى من طرح مواضيع عميقة تمسّ المجتمع بجانب قصته الدرامية الرئيسية، والنص السينمائي الذي كتبه مليءٌ بالحوارات اللاذعة التي تعلق في الأذهان، وأداء الممثلين كان مدهشاً من الجميع، وهذا ليس بأمر غريب في السينما الإيرانية. الممثلون الإيرانيون مدهشون وعفويّون بشكلٍ لا يُصدّق، بالرغم من أنهم لم يدرسوا التمثيل في المعاهد والجامعات، ولكن الموهبة التي يمتلكونها تجعل كل صانع أفلام محظوظاً بهم في فيلمه.

"رحيم" الذي تتغير دوافعه ومبادئه وطباعه بقدر سوء حظّه قد يجعلنا نتساءل عن شخصيته ونواياه، وهو يسير بنا في الفيلم طوال ساعتين، وحين ننظر إليه عن كثب نكتشف بعد كل شيء أنه ربما هناك شرّير في أفلام "فرهادي". إنه "المجتمع" نفسه.