الاثنين، 23 يونيو 2014

Jane Eyre 2011


Jane Eyre

 قصة فتاة بسيطة تملك أجمل وأطيب قلب في العالم

 

القصص الرومانسية الكلاسيكية تجذبنا بقوة، وهي تشتهر بالبطلات العفيفات البسيطات والأبطال المكتئبين الغامضين الذين يتجوّلون في قصورهم، حيث الظلام يسود المكان والأسرار الدفينة تختبئ في الزوايا. رواية "جين إير" للكاتبة "شارلوت برونتي" تعتبر من أعظم الروايات الكلاسيكية، فقد كانت قفزة مدهشة وقوية في الأدب العالمي.
التوتّر غالباً ما يتولّد بسبب انجذاب فتاة عذراء لرجل خطير، ولكن الأمر البائس هو أن البطلة هي الأفضل، ويجب عليها أن تكون فخورة وشريفة وشجاعة ومثالية. انجذابها للرجل المشؤوم يجب أن يكون مبنياً على الشفقة وليس على الخوف، وهو يجب عليه أن يستحق مثاليتها.
هذا الفيلم الرائع "جين إير" والذي سبقته عشرات الاقتباسات لنفس الرواية، استطاع فهم الصفات الدقيقة للشخصيات، وأيضاً الفن المعماري الذي يجسّد تلك الحقبة الزمنية. الفيلم يبدأ مع البطلة "جين إير" وهي تركض في العراء والخوف يملأ قلبها، فقد هربت من مكان كئيب لتجد نفسها تسير في شوارع أكثر كآبة، كما لو أن الطبيعة تتآمر عليها. لم تكن هذه الافتتاحية التي توقعناها و"جين" فتاة شابة، ولكن بعد ذلك ترجع بنا ذاكرة الفيلم لمرحلة طفولتها البائسة مع عمّتها القاسية، والمدرسة الداخلية التي تستمتع بتعذيب الطالبات.
"جين" وُصِفَت في الرواية بالفتاة البسيطة. هنا تلعب دورها النجمة "ميا واسيكوسكا" التي أدّت دور البطولة في فيلم "أليس في بلاد العجائب" مع الفنان "جوني ديب"، وهي بعيدة جداً عن البساطة، وقد حوّلت نفسها إلى فتاة شاحبة وحادّة الطباع، وتحتاج لأن تُسقى قليلاً من الحب. تم توظيفها من قبل الشاب المتزمّت "روشيستر" لكي تقوم بتوفير الرعاية للفتاة الصغيرة "أديل" التي تعيش في قصره المعزول. كيف وصل به الأمر ليقوم برعاية طفلة صغيرة تحت وصايته؟؟ هذا سؤال مهم ويندرج ضمن قائمة أسئلة كثيرة والتي يمكن أن تجيب عليها السيدة "فيرفاكس" مدبّرة القصر الطيّبة.
سواء قرأتم الرواية أم لا، هنالك أسرار نكتشفها لأول مرة، أو أنّنا لم ننتبه إليها مسبقاً، ووظيفتها هي تزويد "روشيستر" بسبب شريف لكي يقوم بعمل غير مشرّف، وبالتالي المحافظة على القيم الأخلاقية في ذلك الوقت. الرواية في الواقع تدور حول الجاذبية الممنوعة للطرفين والتوتر الناجم بين "جين" و"روشيستر". كثيرٌ من القوة تتولّد من المشاعر المكبوتة، أو بالأحرى "شارلوت برونتي" كانت تكتب عن مشاعر النساء الرقيقات في عصرها واللّاتي لا يفترض بهن أن "يشعرن".
الفيلم من إخراج "كاري فوكوناغا" والذي قام في هذه النسخة الحديثة بإظهار المشاعر بكثافة بين الشخصيات المنغلقة على نفسها. إنه مخرج يتمتع بحس بصري فائق، فقد أضفى على الفيلم لمسة جمالية بمواقع التصوير المذهلة وتصميم الديكور الخلاّب، وقد ترشّح لجائزة أوسكار عن أفضل تصميم أزياء بعام 2011، ومن العناصر المهمة في الفيلم هي الموسيقى الرقيقة الناعمة التي قام بتأليفها المبدع "داريو ماريينيلي".
روعة الفيلم من روعة الرواية، وطاقم التمثيل مميز جداً. "مايكل فاسبندر" أبدع في تقديم شخصية "روشيستر" كما في الرواية تماماً، والفنان الموهوب "جيمي بيل" يعود مجدداً إلى عالم الإبداع بشخصية مهمة في الفيلم بعد دوره الآسر في فيلم "بيلي إليوت"، ولا ننسى الفنانة المخضرمة "جودي دنش" التي تبدو حقاً من نساء ذلك العصر الجميل، ولا طالما كانت وستظل من أعظم نجوم السينما وخصوصاً في أدوار شخصيات العصور القديمة.
"ميا واسيكوسكا" أثبتت جدارتها وموهبتها من خلال شخصية "جين إير" والتي بدت مناسبة للدور لأنه في الواقع يفترض بـ "جين إير" ألاّ تبدو جميلة بل مقبولة الشكل. هذه هي أوصاف الكاتبة للشخصية في الرواية، وأنا أجد ذلك أمراً مميّزاً حقاً، فنادراً ما نقرأ عن بطلة قصة رومانسية تفتقر للجمال الخارجي، ولكن كم مرة قرأنا قصة عن فتاة بسيطة جداً تملك أجمل وأطيب قلب في العالم؟!
 


 

الأحد، 22 يونيو 2014

Awakenings 1990


Awakenings
دعوة لتأمُّل غرائب وعجائب شخصية الإنسان
 

 
نحن لا نعرف ما الذي نراه عندما ننظر إلى "ليونارد"، فقد نظن أننا نرى جماداً، أو رجلاً غريباً قد تم تجميده لمدة ثلاثين عاماً على نفس الوضعية. إنه لا يتحرك، ولا يتكلم!! ما الذي يدور في عقله؟ هل هو يفكّر؟ بالطبع لا!! هذا ما يقوله أحد أخصّائيي الأمراض العصبية في فيلم "الصحوات". لماذا؟ "لأنّ آثار ذلك المرض غير قابلة للتصوّر". آه، لكن هذا الخبير مخطئٌ تماماً، وداخل الغلاف الجامد لجسمه، "ليونارد" لا يزال هناك.. ينتظر.
"ليونارد" هو واحدٌ من مجموعةِ مرضى بمستشفى "برونكس" للأمراض العقلية، واتّضح أنّه لا يُمكن عمل شيءٍ من أجلهم، فقد كانوا ضحايا "مرض النوم العظيم"، وهو وباء انتشر في عشرينيّات القرن الماضي، وبعد فترة من الشفاء الواضح تراجعت حالتهم من جديد وذلك في عام 1969، والمرضى لديهم العديد من الأعراض المختلفة، ولكن في النهاية هم جميعاً يعيشون نفس المشكلة، حيث لا يستطيعون جعل أجسامهم تعمل وفق رغباتهم، وأحياناً ذلك الاعتراض يتجلّى من خلال سلوك فيزيائي غريب، أو من خلال عجزٍ واضح.
في أحد الأيام يأتي طبيبٌ جديد للعمل بالمستشفى، وليست لديه الخبرة في علاج المرضى، حيث أن مشروعه الأخير كان عن ديدان الأرض، ويبدو كغيره من الأطباء اليائسين من حال المرضى. يقوم الطبيب بالتحدّث مع إحدى المريضات، وهي تنظر إليه بجمود، ثم تقع نظارتها، ويرى كيف تكون ردّة فعلها في التعامل مع الموقف، من خلال محاولتها تحريك عينيها ويديها، ويكتشف الطبيب حالاً أنها لا تستطيع أن تتحرك وفق إرادتها.
هذا هو الاكتشاف العظيم في بداية فيلم "الصحوات"، الذي يمهّد لمَشاهد الفرح والحزن، وعلى الرغم من كون المرضى "يقظين" لحريتهم الشخصية والتي فقدوا كل الآمال بعيشها مجدداً، فقد وجدوا أن حريّتهم تأتي مع "قائمة شروطها القاسية".
الفيلم من إخراج "بيني مارشال"، وقد اقتُبِسَ من كتاب الطبيب البريطاني "أوليفر ساكس" الذي عاش القصة، ولعب دوره الفنان "روبن وليامز" والذي سُمِّي بالفيلم "مالكوم ساير". ما اكتشفه في عام 1969 كان دواءاً جديداً لعلاج مرض الشلل الرعاش، والفيلم يتبع 15 مريضاً من هؤلاء، وخصوصاً "ليونارد" الذي يؤدي دوره الفنان "روبرت دي نيرو" بإبداع وإتقان. الفيلم لا يهدف إلى إهدار دموع المشاهدين، بل يدعوهم لمراقبة عملية فحص بارعة لحالة إنسانية قاسية، والأمر يعود لـ "دي نيرو" بجعل "ليونارد" لا يبدو كأداةِ شفقة، بل كشخصٍ يجعل الجميع يتساءلون عن مدى غموض من حولهم.
المرضى يصوِّرون في هذا الفيلم أنّ معاناتهم أكثر فظاعة من الشخص الذي يوضع في تابوت وهو لا يزال حيّاً، فإنه سيختنق بسرعة وتنتهي معاناته، ولكن كون الشخص حبيس جسمهِ ولا يستطيع أن يتحرّك أو أن يتكلّم كما لو كان قطعة أثاثٍ مُهمَلة!! إنه ذلك المصير الذي رُفِعَ عنهم في صيف 1969، حين قام الطبيب بتجربة دوائه على المرضى، وفي حالة أشبه بالمعجزة، أجسامهم بدأت بالذوبان، واستطاعوا أن يتحركوا وأن يتكلموا من جديد، وبعضهم كان قد عاش 30 عاماً من الأسْرِ الذاتي.
الفيلم يراقب "ليونارد" من خلال مراحل صحوته، فقد كان ولداً محبوباً إلى حين تمكّن المرض من التوغّل فيه وبقائه في المستشفى طيلة ثلاثة عقود، وفي عقده الرابع تنبعث إليه الحياة من جديد ويشعر بسعادة غامرة لقدرته على الحركة والتعبير عن نفسه، ويتعاون مع الأطباء في دراسة حالته، ويجد نفسه منجذباً لإبنة أحد المرضى، والحب يحرّك مشاعره للمرة الأولى.
الطبيب "ساير" هو الشخصية الرئيسية في أغلب المشاهد، وهو سجينٌ أيضاً، بالخجل وعدم الخبرة. هذا الدور هو واحدٌ من أروع أدوار "روبن وليامز". قدّم شخصية رجل جدير بأن يُحَبّ في هذا الفيلم، والذي حَظِيَ بعيش تجربته الرائعة بمشاهدة المرضى الجامدين وهم يرقصون ويغنّون ويحيّون أحبّاءَهم مرّة أخرى.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة، ليس بعد الأسابيع الأولى. المرض ليس قضية تُفتَح وتُغلَق، ومع تكشّف ستار الفيلم، نكون مدعوّين لتأمُّل غرائب وعجائب شخصية الإنسان. من نحن بطبيعة الحال؟! إذا كان الشخص يائساً، ماذا يجب أن يفعل؟ أن يبقى يائساً أم أن يُعطى أملاً ثمّ يخسره من جديد؟؟
حصل الفنان "روبرت دي نيرو" على ترشيح لجائزة الأوسكار بعام 1990 لأفضل ممثل عن أدائه الرائع لشخصية "ليونارد"، وترشّح الفيلم أيضاً لجائزة أفضل فيلم وأفضل نص سينمائي مقتبس. نقل لنا الفيلم الشجاعة الهائلة للمرضى والتجربة العميقة للأطباء، وبطريقة ما شهدوا جميعاً تجربة جديدة.. تجربة أن تولد من جديد، وأن تفتح عينيك وتكتشف أنّك حيّ.
 


 

Confessions 2010


Confessions

خطّة انتقامٍ جهنّمية تقلب الشخصيات رأساً على عقب

 

إنّه ذلك الشعور النادر الذي يجعل الأمر مبهجاً حين تقومون بإنقاذ بعض اللحظات من فيلمٍ غرق في بحر التألُّق. إنّه غامضٌ ومُربك. فيلم "اعترافات" الذي أنتج بعام 2010 هو حرب نفسية مليئة بالإثارة، ويعالج مواضيع تتعلّق بالعدالة الشعرية والانتقام، والتي تُقدَّم ببرود تام على نغمات متوازنة من الشر المدمّر. استعدّوا لأن يتم اصطيادكم بصنارته الطويلة من البداية ولغاية ثلاثين دقيقة، قبل أن تصل الأمور إلى حالة تأهب كامل لرحلة عنيفة تقشعر لها الأبدان مع شخصيات قوية مليئة بدوافع منحرفة في جميع الأنحاء.

أخرج الفيلم "تيتسويا ناكاشيما" وكذلك كتب النص السينمائي باقتباسه من رواية لـ "كاناي ميناتو". القصة ستنوّمكم مغناطيسياً بعرضها لوجهات نظر من شخصيات متعدّدة، وكل الشخصيات تتداخل بشكل جوهري مع بعضها الآخر، وجميعهم يقعون تحت أسر الفيلم الذي نفِّذ بأسلوبٍ أنيق.

سترون أموراً لم تخطر في بالكم قط وأنتم تشاهدون فيلم إثارة كهذا، وذلك المشهد التمهيدي في الصف الدراسي وحده يستحق المشاهدة مراراً وتكراراً، بتنسيق أسلوب التباين الصوتي فيه إلى الكمال، حين نجد معلّمة لا تستطيع السيطرة على صفّها، وكيف تحاول وبلا مبالاة أن تفعل ذلك لغاية انفجار القنبلة التي أحدثت صمتاً تلقائياً مصحوباً بخوف شديد.

المعلمّة تدعى "يوكو"، والتي قُتلت ابنتها على يد طلّاب محدّدين في صفّها الدراسي. بدلاً من تحدّي حكم القضاء ومعرفتها التامّة أنّ القاصرين يحميهم قانون العقوبات في البلاد، تقوم بإعداد خطة جهنمية تقلب الصف الدراسي رأساً على عقب وتضع الطلّاب وسط دوامّة من الشكوك، بل وأيضاً تضربهم على الوتر الحسّاس، وتراقب الأمور برويّة وتستغل نقاط ضعفهم. ربّما تكون هذه أفضل طريقة يتّبعها من يريد التعامل مع شرٍ لا يوصف.

هذا الإجراء في خطّتها يشكّل الجزء المتبقّي من الفيلم والذي يُروى من وجهات نظر مختلفة بأسلوب يقوم على سلسلة من الاعترافات الشيّقة، ومن هنا جاء عنوان الفيلم. الشخصيات تدرس للوصول إلى الكمال، والملاحظات الاجتماعية تمتزج بذكاء حول هِستيريا المراهقين الضالّين في وقتنا الحاضر، ورغبتهم الشديدة في إثبات وجودهم وكسب اهتمام الغير، وأن يكون الفرد منهم أعلى من الجميع.

الأمهات يشاركن في اللعبة، والفيلم يثير فكرة في هذا الجانب من الطبيعة البشرية، وهي عامّة جداً. أمٌ تفقد ابنتها وأخرى تصرُّ على دفاعها الأعمى ضد الاتّهامات التي توجّه لابنها. من منّا لا يعرف قوة حب الأم وإلى أي مدى ستصل لحماية أبنائها؟؟ هنا نرى فاجعة مريرة ألمّت بمعلّمة وكيف تقودها للانتقام البارد، ويصبح كل من حولها كقطع الشطرنج وهي لها مُطلق الحريّة بتحريك أيّة قطعة وفق إرادتها.

حرص المخرج على جعل المُشاهد ملتصقاً بكل ما يظهر في الشاشة والشكر موصول للمصوّر المبدع الذي اختار بعدسته أروع اللقطات لهذا الفيلم، مدعوماً بموسيقى مميّزة تعزّز الجو البصري الغامض. لقد وقعتُ تحت تأثير مجموعة من المَشاهد بالحركة البطيئة والتي استخدمها الفيلم ببراعة. إنّها تجلب إحساساً غريباً بالإيقاع الهادئ الذي يخون كل السواد الذي يغمر النغمات والغموض الذي يتخمّر باستمرار في القصة.

لا يوجد هناك أي مشهد ضائع أو معزول، فكل المَشاهد تحرّك القصة نحو الأمام بشكل جذّاب، وتجعلنا نخمّن ما سيحدث من مفاجآت، ونرتبط بصمت مع العدالة بأي شكل تتّخذه، حتى وإن كنّا غير قادرين على ذلك بما أنّ الإجرام بدأ من الأطفال. للمذنبين منهم، تختار المعلّمةُ العقابَ الذي سيكون له صدى عميق في جميع مراحل حياتهم، والواضح جداً أنّه طريق طويل للغاية.

طاقم التمثيل من المراهقين هو المسيطر في الفيلم. لقد قدمّوا أدوارهم بشكل رائع، ولا يمكن لأحد أن يتصوّر الأفكار التي تدور في أذهانهم من خلال تقمّصهم شخصيات هي أساساً مضطربة عقلياً وغير سليمة لفعل ما فعلوه. العنف قد يكون مقلقاً لأصحاب القلوب الضعيفة، ليس لأن هناك مَشاهد دموية، بل السيكيولوجيا النفسية ستجعلهم يزحفون على جلود المجرمين ورؤية الأمور من وجهة نظرهم المضطربة.

الفيلم الياباني "اعترافات" هو دراما انتقامية، ومثلما تشتد الروابط بين الضحايا والمجرمين، تتصاعد الأحداث إلى نهاية رائعة تقشعر لها الأبدان. "أنا أمزح فقط!!!".. ما هي الهاوية التي تكمن وراء هذه الكلمات؟ لا أحد صافي القلب، والبشر هم أغرب المخلوقات حقّاً. المخرج العبقري "تيتسويا ناكاشيما" لم يضف ملعقة سكّر لفنجان قهوته السوداء، ومع ذلك نشربها ولا نشعر بمرارتها. إنّ في تلك المرارة حلاوة لا يشعر بها إلّا من يتذوّق الفن.

تستطيعون البقاء في جحيمكم الخاص، بينما الشمس تشرق في مكان آخر، والأشجار ترقص مع الريح والأزهار تتفتّح، وطلّاب المدرسة يركضون وهم سعداء لأنّ عطلة الربيع قد بدأت. كم هو عالمٌ جميل، وكم هو بشع لو بحثنا فيه جيّداً.



 

السبت، 21 يونيو 2014

Kramer vs. Kramer 1979


Kramer vs. Kramer

صراع حاسم وقرارات مصيرية ولحظات لا تُنسى من واقع الحياة

 


فيلم "كريمر ضد كريمر" لن يكون رائعاً وممتعاً وجاذباً للانتباه لو تحيّزَ لجانبٍ معيّن، فهو يدور حول مسألةٍ غنيّة بالفُرَص المتاحة لاختيار أحد الجانبين. تتمحور الأحداث حول قضية طلاق وصراع من أجل حضانة طفل، ولكنّ المهم في قصةٍ كهذه – سواء في الأفلام أو الحياة على أرض الواقع – ليس مَن هو على صواب أو على خطأ، بل قدرة الأشخاص المعنيين بالحدث على التصرّف بشكلٍ أفضل وفقاً لطبيعتهم الخاصة.

يبدأ الفيلم مع زواجٍ مليءٍ بالتعاسة والأنانية وينتهي بشخصَيْن منفصلَيْن كلاهما تعلّم أموراً مهمّة حول الطريق الذي يجب أن يسلكه. هناك طفلٍ حُشِرَ في وسط كل ذلك، وهو "بيلي" الطالب في الصف الأول. لكن هذا الفيلم ليس حول محنة الطفل، بل هو حول محنة الآباء.

جرت العادة في الأفلام أن يقوم المخرجون برصد مثل هذه القصص من خلال وجهة نظر الطفل، وإظهاره في هيئةٍ تثير الشفقة بملامح الحزن والإحباط، وأن يُلاقي إهمالاً من الكبار، ولكن ماذا لو كان الكبار ليسوا كباراً حقاً؟ وماذا عن عائلةٍ كلُّ فردٍ فيها عبارة عن طفلٍ يبكي ليلقى الاهتمام ويبحث عن هويّته؟

هذا هو الحال هنا. السيد "كريمر" هو رجل مدمن على عمله كمديرٍ تنفيذي لإحدى شركات الإعلانات، وأفكاره كلّها متركّزة حول عمله، لدرجة أنّه حين يعود للمنزل وزوجته تبلغه عن عدم تحمّلها لهذا الزواج، بالكاد يستمع إليها ولا يأخذ حديثها على محمل الجد، لكن السيّدة "كريمر" تخرج من المنزل وتقول إنها تحتاج وقتاً لكي تجد نفسها الضائعة.

على الفور نصبح على مقربة من اختيار الجانبين وإلقاء اللوم، فنسأل: كيف لها أن تخرج من المنزل وتترك ابنها؟ ولكن لا يمكننا حقاً طرح هذا السؤال بكل مصداقية، لأنّ ما رأيناه من الزوج هو سبب مقنع فعلاً للقرار المصيري الذي اتّخذته الزوجة، فربّما هي استغنت عن أسرتها وغادرت، ولكنّه بالكاد كان جزءاً منها. إنّه غير منظّم، ويتأخر في عمله، وحين يأخذ ابنه إلى المدرسة في اليوم الأول بعد مغادرة زوجته، يسأله: "في أيّ صف دراسي أنت؟!". السيّد "كريمر" لم يكن يعرف ذلك!!

الفيلم يُبعِد السيّدة "كريمر" عن الشاشة لبعض الوقت، وتُتاح الفرصة للأب وابنه ليتعرّفا على بعضيهما بشكل أفضل. المسئولية تُثقل كاهل السيّد "كريمر" ممّا يصل الأمر في نهاية المطاف إلى إقالته من الشركة. هذه المَشاهد هي الأروع في الفيلم، والمخرج والكاتب "روبرت بينتون" زوّد شخصياته بحوارٍ متقن يتغذّى على التفاصيل اليومية الدقيقة في حياتنا، وأمّا السيّد "كريمر" وابنه "هنري" قرّرا الارتجال قدر الإمكان. يتّم ضبط المواقف وترك الحرية المُطلقة للطفل في الرد، وبهذه الخطوة الحكيمة من المخرج نقل لنا لحظاتٍ عفوية مميّزة من واقع الحياة.

ما يعنيه ذلك هو أنّه يمكننا رؤية الأب وابنه وهما مجتمعين سوياً وقريبين من بعضهما. لا أعتقد أنّ فيلماً آخر يستطيع رصد هذه العلاقة كالتي نراها في هذا الفيلم. إنّه فيلم واقعي حول أشخاصٍ حقيقيين يتّخذون قرارات حقيقية، ويصبح الأمر مؤكّداً حين تصل القصة إلى قمّة ذروتها بعودة السيّدة "كريمر" وإعلانها أنّها مستعدة للمطالبة بحضانة ابنها.

بوصولنا لهذه النقطة، ليست لدينا أيّة رغبة باختيار أحد الجانبين. قد تميل عواطفنا لناحية الأب بعد أن شاهدناه وهو يتغيّر إلى الأفضل خلال وقتٍ قصير، ولكن الآن نحن فقط نتصرّف كشهودٍ على الدراما، وقد شجّعَنا الفيلم على أن نُدرك أنّ هؤلاء الأشخاص عميقون ومعقّدون بما فيه الكفاية، كما هي حال كل البشر، ولا يمكننا تحديد مشاعرهم ودخول أحاسيسهم وبالتالي لا نستطيع أن نحكم عليهم بناءاً على الأمور الظاهرة. مشاعر الإنسان هي أكثر الأمور تعقيداً وخطورة، ولذلك يجب أن نحرص جيداً في التعامل معها قدر الإمكان.

أداء الممثلين رائع للغاية، والفنان "داستن هوفمان" قدّم شخصية السيّد "كريمر" بشكلٍ عفوي وواقعي جداً، ونشعر حقاً بالتعاطف معه على الرغم من غرابة أطواره وتقلّب شخصيته في خط سير القصة. الفنانة العظيمة "ميريل ستريب" أبدعت في ثالث ظهورٍ سينمائي لها في شخصية السيّدة "كريمر" التي قدّمتها بأسلوب مميّز وغنّي بالمشاعر الحزينة والغاضبة والحنونة.

حاز الفيلم على 5 جوائز أوسكار بعام 1979 لأفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل نص سينمائي مقتبس وأفضل ممثل "داستن هوفمان" وأفضل ممثلة مساعدة "ميريل ستريب". كما ترشّح لجائزة أفضل تصوير وأفضل مونتاج، والنجمة "جين أليكساندر" ترشّحت لأفضل ممثلة مساعدة عن دورها المميّز لشخصية الجارة "مارغريت"، والمفاجأة الكبرى هي ترشّح النجم الموهوب "جستن هنري" لأفضل ممثل مساعد عن دور الطفل "بيلي"، وبذلك حقّق رقماً قياسياً بكونه أصغر شخصٍ يترشّح لجائزة الأوسكار وهو في الثامنة من عمره، وقد أبدع حقاً في تقمّص الشخصية.

المخرج "روبرت بينتون" يوفّر قدراً كبيراً من الاهتمام على الفوارق الدقيقة للحوار. إنّ الشخصيات لا يتحدّثون مع بعضهم البعض وحسب، ولكنّهم يكشفون أموراً عن أنفسهم، ويمكن رؤية ذلك في محاولات التعرّف على دوافعهم الخاصة، وهذا ما يجعل فيلم "كريمر ضد كريمر" مؤثّراً للغاية. على مشارف النهاية، يلتقي السيّد "كريمر" بالسيّدة "كريمر"، ويقول لها: "لماذا لا تصعدين للأعلى وتقابلين بيلي وأنا سأنتظر هنا؟". تمسح دموعها وتقول: "كيف أبدو؟". يقول لها: "تبدين رائعة!!".
 


 

الجمعة، 20 يونيو 2014

Departures 2008


Departures

خدمة العملاء للقيام برحلتهم الأخيرة!!

 

فيلم "الراحلون" هو فيلم ياباني يدور حول رجل شاب يعمل كمتدرب في مجال "الجنازات"، حيث يقوم بتجهيز الجثث قبل أن تُحرَق، وليس هناك أي حديث حول ما بعد الموت، فالأمر يتعلق بالأحياء. يتم إقامة مراسم تحضيرية للمتوفى بحضور العائلة والأصدقاء، وتجهيزه بكامل الأناقة والرعاية حتى يبدو بأبهى حُلّة.
البطل هنا "دايغو" الذي يشعر أنه يستحق الموت، فقد هجَرَهُ والدهُ وتركه مع والدته وهو طفل في السادسة من عمره، ومنذ ذلك الوقت شعر "دايغو" بالكره الشديد تجاه والده على ما فعله به وبوالدته، والآن وقد أصبح في سن الثلاثين، ويعمل عازفاً منفرداً في فرقة لعروض الموسيقى الكلاسيكية والتي ستتوقف أعمالها بسبب الإفلاس.
يقرر "دايغو" الانتقال  مع زوجته "ميكا" إلى مسقط رأسه في شمال اليابان والعيش في المنزل الذي ترعرع فيه حين كان طفلاً، والذي أصبح منزله بعد وصيّة والدته المتوفاة حديثاً، وهو الآن عاطل عن العمل، ويقرأ إعلاناً في الصحيفة حول وظيفة عنوانها "الراحلون" ويعتقد أنها متعلّقة بمجال السفريات أو شيء من هذا القبيل.
الشركة تقوم بخدمة العملاء للقيام برحلتهم الأخيرة، ويُصدَم "دايغو" حين يكتشف ما يفعله المالك، حيث يقوم بغسل وإعداد الجثث بعناية فائقة ليجعلهم يبدون بأبهى حُلّة. الطقوس تُقام بشكل فنّي ومبتكر أمام الأهل والأصدقاء، والمالك رجل هادئ ولطيف، وهو لا يتحدث كثيراً، لكنه يُبدي أقصى درجات الإحترام للموتى بمشاعره الحزينة والصادقة. "دايغو" لا يُخبر زوجته بحقيقة وظيفته، وهو بحاجة ماسّة إلى المال، ووظيفته في نظر المجتمع وضيعة جداً، ويعلم لاحقاً أحد أصدقائه القدامى بذلك ويعامله بازدراء واحتقار شديد.
كثير من الأمور يجب أن توضع في الحسبان حين نريد أن ننتج فيلماً راقياً، والمخرج "يوجيرو تاكيتا" ومساعده "تاكيفومي يوشيكاوا"  اتّحدا بشغف واختارا ممثلين تملأ وجوههم نظرات العطف والشفقة والإنسانية، فنجد الرجل الشاب المليء بالجدّية ومع ذلك متوتّر، وزوجته التي تحبه ولكنها مصدومة ومنزعجة من عمله مع الموتى، وبالإضافة إلى مالك الشركة وهو رجل عجوز حكيم ولطيف، وأيضاً مديرة مكتبه المتفائلة والبشوشة والتي مع ذلك نشعر بحزن داخلي يطغى على قلبها. كل تلك الوجوه الأربعة جميلة بشكل واقعي وإنساني.
مهمة تحضير الجثث هي أمر جاد بكل معنى الكلمة، ومع ذلك نجد بعض اللحظات الظريفة، ربما لإزالة مخاوفنا من الموضوع برمّته، ولكن ليس بطريقة تؤثر على سير القصة، فالأحداث تسير بشكل تدريجي وتمهّد لما سيأتي بعدها، والموسيقى خصبة وعاطفية بشكل مكبوت، والتصوير مميز جداً، والفيلم يستحوذ على الإنتباه بشكل نادر جداً، وهناك مشهد اكتشاف في نهاية الفيلم له تأثير عاطفي هائل، ولا يمكن أن نقول أنّه غير متوقع، ولكنه كان مفاجأة مدمّرة.
بعض الاختيارات البصرية كانت مدهشة في الفيلم. لاحظوا كيف أخرج "تاكيتا" المشهد الذي يُقدَّم فيه "أخطبوط" كعشاء للزوجين، وتفاجئِهما بأنه لا يزال حيّاً، وانظروا بوضوح كيف يقوم "دايغو" بتذكّر موقفٍ في طفولته عندما كان مع والده عند شاطئ البحر، بل كيف يبدو وجه والده في ذاكرته، فيعيش المُشاهِد لحظة تعمّق في هذا المشهد، ونُدرك بالصورة الضبابية لوالده مدى ألم وحزن "دايغو" الذي بات لا يتذكّر ملامح والده، والأعمق هو وقوعنا تحت تأثير القصة لدرجة أننا قد ننتظر أن يأتي دورنا لنندرج في قائمة "الراحلين". حاز هذا الفيلم على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي بعام 2008.
 


 

الخميس، 3 أبريل 2014

The Phantom of The Opera 2004


The Phantom of The Opera

دعوة للاستماع إلى موسيقى الليل مع "كريستين" و"شبح الأوبرا"

 

 ما الذي تثبته النسخة السينمائية لـ "شبح الأوبرا"؟! إنّها تثبت أننا نحتاج لمزيد من الأفلام الموسيقية الاستعراضية. "مولان روج" كان مذهلاً، و"شيكاغو" كان شيئاً فريداً، و"شبح الأوبرا" يسرق القلوب. اكتفينا من مشاهدة الأفلام التجارية التي ليس بها أي مضمون أو عبرة، وصار الأمر بالنسبة لنا كالحلم لنشاهد فيلماً موسيقياً في هذه الأيام، ولا يسعنا إلّا الرجوع إلى زمنها المجيد قبل عقود ومشاهدة الروائع مثل: "صوت الموسيقى" و"سيّدتي الجميلة" و"ماري بوبينز" والكثير غيرها. أتمنى أن يعود مجد الأفلام الموسيقية الاستعراضية كما كان في السابق، ونستمتع بمزيج القصص والموسيقى والأغاني.

"شبح الأوبرا" هي رواية شهيرة للكاتب الفرنسي "غاستون ليغو"، وقد قام الموسيقار "أندرو لويد ويبر" بتحويل نص الرواية إلى أضخم عملٍ مسرحي بعام 1986، وقد لاقى نجاحاً باهراً، وبعد 18 عاماً يعود ليُحيي تحفته الموسيقية بإنتاج فيلم سينمائي رائع وقد قام بكتابة نصّه بالإضافة للأغاني مع الموسيقى والألحان، وأخرجه "جويل شوماخر".

تدور أحداث الفيلم في دار الأوبرا الباريسية بعام 1870، ونلتقي بالشابة الجميلة "كريستين دايي" التي تخطو إلى عالم النجومية بعد خروج مغنّية الأوبرا المدلّلة "كارلوتا" من العرض الموسيقي. تلقّت "كريستين" دروساً خاصة من "ملاك الموسيقى" الغامض لسنوات عدّة. أستاذها الخفي علّمها الغناء بشكل رائع مما جعلها تغنّي كملاك وتبهر مدراء المسرح بما يكفي ليجعلوها بطلتهم الجديدة.

في حين تعتقد "كريستين" الساذجة أنّ أستاذها الخفي هو روح والدها الراحل، ولكن السيّدة التي تبّنتها تعرف الحقيقة. هذا الأستاذ في الواقع هو "الشبح" المشوّه الذي يعيش في دار الأوبرا. إنّه موسيقار عبقري جنّ جنونه، وقد أتيحت له الفرصة ليقع في حب "كريستين" تدريجياً طوال السنوات الماضية. ما إن تصعد "كريستين" على خشبة المسرح وتتألّق بجمالها وصوتها العذب، ينبهر بها الجمهور وخصوصاً الشاب الغني والوسيم "راوول" الذي يقع في حُبّها حالاً، وهذا الأمر يثير قلق وغضب "الشبح"، إذ أنّ علاقته بـ "كريستين" تصبح في خطر.

ينجح "راوول" في كسب حب "كريستين"، و"الشبح" يرى ذلك بعينيه الحزينتين والمليئتين بالغضب. خلال هذه الرحلة الموسيقية التي تعّج بالرومانسية والغموض سنعيش لحظات لا تُنسى مع الأغاني الخلّابة والموسيقى الرائعة. الممثلون قدّموا عملاً جبّاراً بتأديتهم للأغاني بجانب التمثيل، والنجمة "إيمي روسوم" بوجهها البريء وصوتها الرقيق كانت مناسبة جداً لدور "كريستين"، وهي الواقع تلّقت التدريب في دار أوبرا ميتروبوليتان منذ أن كانت في الثامنة من عمرها، وقد شعرنا أنّها وُلِدَت للعب هذا الدور.

النجم "باتريك ويلسون" امتلك التهوّر والمسحة الرومانسية اللازمة لدور "راوول" الذي يصبح في حرب غير معلنة مع "الشبح" بلحظة وقوعه في حب "كريستين". الفنان "جيرارد باتلر" لم يكن الشخص المناسب للعب دور "الشبح" لكونه غير مشهور حينها، ولكنّه فاجأ الجميع بأداء رائع ومميّز للغاية. نرى الغموض والجمال الداكن والألم المكبوت في ذلك الوجه المغطّى بقناعٍ أبيض، والذي يخفي أسراراً أكثر من مجرد تشوّه خُلقي.

ليسوا هم وحدهم من أذهولنا بأدائهم الاستعراضي والغنائي، فقد شاركهم الإبداع نجومٌ مميزون مثل الفنانة "ميريندا ريتشارسون" في دور السيّدة "غيري"، والفنان "سايمون كالو" في دور "آندري"، وكذلك "ميني درايفر" التي أبدعت في تقمّص شخصية مغنيّة الأوبرا المغرورة "كارلوتا". ترشّح الفيلم لنيل 3 جوائز أوسكار بعام 2004 لأفضل تصميم مواقع وأفضل تصوير وأفضل أغنية.

فيلم "شبح الأوبرا" هو متعة سمعية وبصرية، وأدعو كل عشّاق المسرح والموسيقى والسينما لأن يشاهدوا هذا الإبداع الذي صاغه الفنان "أندرو لويد ويبر". إنّه حقّاً فيلم مذهل وساحر بقصّة الحب الغامضة والأغاني الخلّابة. نستمع للشبح وهو يغنّي بصوتٍ حزين: "قولي أنّكِ ستشاركيني حُبّاً واحداً وحيّاة كاملة.. قوديني، أنقذيني من وِحدتي.. قولي أنّكِ تريدنني هنا بجانبكِ.. أيّ مكانٍ ستذهبين إليه، دعيني أذهب أيضاً.. كريستين، هذا كل ما أطلبه منكِ!!".
 


 

الجمعة، 31 يناير 2014

The Legend of 1900 1998


The Legend of 1900

حكاية جميلة حول رجلٍ يستطيع فعل أيّ شيءٍ ما عدا أن يكونَ شخصاً عاديّاً!!

 

 

فيلم "أسطورة 1900" هو فيلمٌ رائع بكل المقاييس، وستستمتعون بمشاهدته بكل تأكيد. المخرج الإيطالي الكبير "جوزيبي تورناتوري" برؤيته السينمائية الخلّابة يخلق جوّاً عاطفياً ساحراً تصعب مقاومته، وفي هذا الفيلم يقدّم لنا أغرب شخصية قد نقابلها في فيلم سينمائي أو على أرضِ الواقع. تبدأ الغرابة من اسم الشخصية، حيث يُدعى بطل الفيلم "1900"!! نعم، إنّه اسمه الذي سُمِّيَ به في العام الذي وُلِدَ فيه.

في مطلع القرن العشرين، تم العثور على طفلٍ لقيط على متن سفينة "فيرجينيا"، وقد وجده أحد العُمّال في غرفة الطعام التابعة للدرجة الأولى أثناء بحثه عن الأشياء الثمينة المفقودة من الأثرياء. يقرّر هذا العامل أن يربّي الطفل بنفسه، ويُطلق عليه ذلك الاسم الغريب. "1900" بالنسبة للجميع هو الطفل الذي يكبر في أحشاء السفينة وتحيط به عائلة كبيرة ومُحِبّة، والذي يقوم برحلات إلى ما لا نهاية بين أوروبا وأمريكا، ولا يغادر السفينة أبداً، ولذلك هو غير معروف للعالم الخارجي.

قد تكون شهادة الميلاد وسجلّات الهويّة غير موجودة، ولكن "1900" ترك أثراً دائماً على شخصٍ واحدٍ على الأقل. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، نلتقي بعازف البوق البائس "ماكس" وهو يتجوّل في أحد متاجر الموسيقى في لندن، حيث يكتشف اسطوانة موسيقية نادرة تحتوي على تسجيلٍ لمعزوفة بيانو لـ "1900"، والتي يستحيل أن تكون موجودة في العالم الخارجي. "1900" لم يخطُ أيّة خطوة خارج السفينة، وشركات الإنتاج لا تقوم بتسجيلات على متن السفن.. ألَيْس كذلك؟! يبدأ "ماكس" بسرد قصّة "1900" للبائع في المتجر ولنا أيضاً.

يتجوّل "1900" وهو في الثامنة من عمره في قاعة الحفلات بالسفينة متجاهلاً جميع الأنظمة، وفي إحدى الليالي يقوم وبشكل تلقائي بالعزف على البيانو. في الوقت الذي ينضم "ماكس" لفرقة العزف بالسفينة، نرى "1900" وهو شاب ذائع الضيت لكونه أبهر الجميع بموهبته الفذّة في عزف مقطوعات موسيقية ليس لها مثيل.

إنّ "1900" هو شخصية غامضة، والنجم "تيم روث" قدّم أروع أداء في مسيرته السينمائية بهدوئه وخجله المفرط. نشعر بشغفه للموسيقى والحياة على مفاتيح البيانو. تعابير وجهه المتضاربة تُغنيه عن الكلام، ولذلك كان أداؤه أكثر تأثيراً في المَشاهد الصامتة، وحين يخوض مبارزة ساخنة بالبيانو مع عملاق موسيقى الجاز "جيلي رول مورتون" ستعرفون تماماً ما أعنيه. حين نشاهده وهو يحاول الخروج من السفينة ويقف في منتصف الطريق عاجزاً عن إكمال السير، لا نستمع لأيّة كلمة منه ولكننا نرى في وجهِه مشاعرَ الخوف والحيرة والذهول من العالَم الخارجي الواسع الذي لم يعِش فيه لحظة واحدة.

إضافة إلى الإخراج المميّز، قام "تورناتوري" بكتابة النص السينمائي مستنداً على نص مسرحي لـ "أليساندرو باريكو". لقد تمكّن من خلق العالم المحدود لشخصية البطل، وشعرنا بخوفه الشديد من العالم الخارجي. برغم مدّة عرض الفيلم التي تقارب 3 ساعات، لم نشعر أبداً بالملل أو التعب، خصوصاً ونحن نعيش حكاية نادرة لشخصية غريبة، ولا ننسى الموسيقى الرائعة والمؤثرة للموسيقار الإيطالي "إينيو موركوني" الذي يأسرنا دائماً بموسيقاه التي تمتلك طابعاً خاصّاً ومميّزاً.

قدّم "تورناتوري" جميع أفلامه مع "موركوني"، وقد أتحفانا بالفيلم الإيطالي المدهش "سينما باراديسو"، والذي حاز على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي بعام 1989. قدّما لاحقاً أفلاماً رائعة جداً مثل "مالينا" و"المرأة المجهولة" و"باريا". بالرغم من أنّ فيلم "أسطورة 1900"  هو إنتاج إيطالي، إلّا أنّه الفيلم الوحيد الذي يتحدّث باللغة الإنجليزية من بين جميع أفلام "تورناتوري"، وقد أُنتج بعام 1998.

هذه الحكاية البريئة لم تكن لتستهوينا من غير الموسيقى الخلّابة والتصوير المُبهِر، وكذلك الطريقة المميزة في سرد القصّة التي تشعرنا بقراءة رواية مشوّقة ونتوق لمعرفة النهاية. عاش "1900" طوال حياته على متن سفينة "فيرجينيا"، وحين يُسأَلْ عن الأرض، يجيب قائلاً: "الأرض؟ الأرض هي سفينة كبيرة بالنسبة لي.. إنّها امرأة جميلة جداً.. إنّها رحلة طويلة جداَ.. إنّها عطرٌ قويٌ جداً!!". أنا أقول: "إنّه فيلمٌ رائعٌ جداً".


 

الأربعاء، 8 يناير 2014

Gone With The Wind 1939


Gone With The Wind

كبسولة زمنية من التجوية العاطفية لتاريخٍ عريقٍ ذهب مع الريح

 


 
فيلم "ذهب مع الريح" يوجّه نظرة عاطفية للحرب الأهلية بين ولايات الشمال والجنوب في أمريكا، والتي تخاضُ بقوّة ليس من أجل تحرير الأرض والعبيد بقدر إعطاء الآنسة "سكارلت أوهارا" قصاصها العادل. هذه التحفة الكلاسيكية الرائعة لم تفقد سحرها مع مرور الوقت.
بالنسبة للقصّة، هذا هو الفيلم المناسب في الوقت المناسب. "سكارلت أوهارا" التي نراها هي ليست فتاة من زمن القصة الفعلي، بل من الثلاثينيات. إنّها فتاة عصرية وممتلئة بالحيوية، والطريق ممهّدٌ لها بواسطة زعانف عصر الجاز والممثلات الشقراوات في تلك الفترة، ولا ننسى الأزمة الاقتصادية الكبرى التي أجبرت النساء على العمل خارج منازلهن.
كانت "سكارلت" تريد التحكّم بمغامراتها العاطفية الخاصة، وهذا هو المفتاح الرئيسي في جاذبيتها، وأيضاً سعت للتحكّم بمصيرها الاقتصادي في السنوات التي تلت انهيار "الجنوب القديم" بشروعها في زراعة القطن ومن ثم إدارتها لمشروع تجاري ناجح. بالطبع، لا يمكنها الهروب بزواجها ثلاث مرّات: الطمع من "أشلي" زوج "ميلاني" الرقيقة، ومنع زوجها الثالث من فراش الزوجية وذلك من أجل حماية خصرها الرقيق من الحمل. لقد فتنت المشاهدين ولا تزال، برؤيتها صامدة وقويّة في عالمٍ قاسٍ. لكن في نهاية المطاف، سلوكاً كهذا يجب أن ينال عقاباً، ولهذا العبارة الأشهر في تاريخ السينما: "بصراحة يا عزيزتي.. أنا لا أهتم" هي كل العقاب.
قائل العبارة هو "ريت باتلر"، والذي اعتاد الحديث مع "سكارلت" بأسلوب عاطفي جريء. حوارٌ من هذا القبيل من شأنه إشعال أحاسيس معظم الناس وإدخالهم في أوهام عاطفية تُنسيهم الواقع الأليم. ارتباك "سكارلت" يقع بين علاقتها العاطفية الفاترة بالسيّد النبيل "أشلي ويلكس" وانجذابها الغريزي للرجل الجريء "ريت باتلر"، الذي يحبّها بصدق ولكنّها تقابل حبّه بالكراهية والانتقام. الصراع الأكثر إثارة في الفيلم هو ليس بين الشمال والجنوب، بل بين شهوة "سكارلت" وغرورها.
الفنانان "كلارك غيبل" و"فيفيان لي" قدّما دورين مميزين في الفيلم الأبرز بتلك الحقبة، فقد جلبا الخبرة والغرور والذوق الرفيع لعدسة الكاميرا في أدائهما الرائع الذي لا يمكن أن يكون كذباً، فبذلك أظهرا أكثر مما تريده القصة. مركز الدراما هو صعود وهبوط المغامرات العاطفية، وخلافاً لمعظم الملحمات التاريخية، الفيلم يولّد إحساساً مقنعاً بمرور الوقت، فهو يُظهر الجنوب الأمريكي قبل وخلال وبعد الحرب، وكل ذلك نراه من خلال عينَي "سكارلت".
من خلال مشاهدة الفيلم نكتشف أهمية الشخصيات الزنوج في إضافة عنصر الإنسانية في القصة، والفنانة "هاتي ماكدانييل" بشخصية الخادمة "مامي" هي الأكثر منطقيةً من بين الشخصيات وذات رؤية واضحة طوال الأحداث. أخرج الفيلم المبدع "فيكتور فليمينغ"، وأنتجه "ديفيد أوه سيلزنيك" الذي فهِم أنّ المفتاح لجذب الجماهير هو الربط بين الميلودراما مع القيم الفنّية العالية. بعض المَشاهد في الفيلم لا تزال تمتلك القوة على حبس أنفاسنا، مثل مَشاهد حريق أتلانتا، والرحلة إلى تارا، وشارع الموتى، و"سكارلت" وهي تسير في الطُرُقات المغطّاة بالدماء، ونشعر حقاً أن الكاميرا تنزف.
تم اقتباس النص السينمائي من الرواية الشهيرة للكاتبة "مارغريت ميتشيل"، و"سكارلت" كانت انعكاساً دقيقاً لشخصيتها الجامحة. طاقم الممثلين أبدعوا جميعاً في تقمّص أدوارهم، ولا ننسى الفنانة المخضرمة "أوليفيا دي هافيلاند" التي لعبت دور الفتاة اللطيفة "ميلاني" بشكل رائع للغاية. هذه الفنانة لا تزال على قيد الحياة بعد مرور أكثر من 7 عقود على إنتاج الفيلم، وقد كان دورها فيه بداية لمسيرة سينمائية ناجحة.
حاز الفيلم بعام 1939 على 8 جوائز أوسكار لأفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل نص سينمائي وأفضل ممثلة "فيفيان لي" وأفضل ممثلة مساعدة "هاتي ماكدانييل" وأفضل تصوير وأفضل تصميم مواقع وأفضل مونتاج، كما حاز على جائزة الأوسكار الفخرية لقاء الإنجاز البارز في استخدام تقنية الألوان الحديثة، فالجميع يعلم أنّ أفلام تلك الفترة كانت غير ملوّنة، وظلّت كذلك لسنوات عديدة نظراً للتكلفة الباهضة للألوان، وأيضاً حاز الفيلم على جائزة الإنجاز التقني الخاصة لاستخدامه معدّات منسّقة في الإنتاج. ترشّح الفيلم لنيل 5 جوائز أخرى لأفضل ممثل "كلارك غيبل" وأفضل ممثلة مساعدة "أوليفيا دي هافيلاند" وأفضل موسيقى تصويرية وأفضل تحرير صوتي وأفضل مؤثرات بصرية.
فيلم "ذهب مع الريح" هو مثالٌ رائع للفن الهوليوودي الأصيل، وكبسولة زمنية من التجوية العاطفية. في ذلك العالم الجميل، هناك في أرض الفرسان وحقول القطن، حيث كانت البسالة تسطر في تلك الحقبة سطورها الأخيرة بفرسانها وجمال سيداتها، وبسادتها وعبيدها. هناك في الجنوب القديم أحداث بعيدة تجدونها فقط في صفحات الكتب لأنّها الآن ليست أكثر من مجرّد حُلمٍ ذهَبَ مع الريح.