الاثنين، 22 مارس 2021

The Father 2020

 

أعظم وأعمق تجسيد لحياة رجل مسنّ في مرحلة "أرذل العمر"!!

The Father

 




قال الله تعالى: (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا)، وهذه الآية دائماً ما تستوقفني، لأدرك كم أنّ الإنسان هشٌّ وضعيف، (وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا)، وأن الحياة قصيرة وزائلة، وأننا كبشر سنُولَد وسنعيش وسنموت لا محالة.

لم أشهد في حياتي فيلماً سينمائياً يجسّد مرحلة "أرذل العمر" كهذا الفيلم، فقد كان واقعياً ومؤلماً ويفطر القلب ويدمع العيون، وقد أكون شاهدت أفلاماً كثيرة رائعة حول الشيخوخة وكبار السن، ولكن هذا الفيلم مختلف جداً، لأنه تناول مرض الزهايمر بشكل مبتكر وغير مسبوق أبداً.


فيلم "الأب" هو أساساً عمل مسرحي للكاتب والمخرج الفرنسي "فلوريان زيلر"، وبعد نجاحه المبهر قرّر تحويل مسرحيته إلى فيلم سينمائي، بالتعاون مع كاتب النصوص المبدع "كريستوفر هامبتون"، وخاض "زيلر" هنا تجربته الأولى على الإطلاق في إخراج الأفلام السينمائية، وكانت تجربة موفقة جداً، وأرجو أن يستمر على هذا المنوال في المستقبل.

تدور أحداث الفيلم حول "أنتوني"، وهو رجل مسن مصاب بالزهايمر، وابنته "آنا" التي تحاول مساعدته بكل ما تستطيع، وقد أدهشتني طريقة السرد بجعلي أعيش محنة "أنتوني" حرفياً، وكأنني أنا مصاب بالزهايمر، فأشعر أن عقلي مشتت وأنني تائه في أفكاري وهواجسي، ولا أدرك أين أعيش، ولا أتعرّف على المكان الذي كنت فيه والمكان الذي وصلت إليه، وكذلك لا أعرف الزمان، فهل أنا في الماضي أو في الحاضر، وهل أنا أتخيّل أحداثاً وذكريات، أو أنها حدثت فعلاً؟! وجوه الشخصيات نفسها تتغير وتتبدل، ومن ندرك ملامحه ونتعرّف عليه نراه لاحقاً كشخص آخر بملامح مختلفة، وهل هم موجودون فعلاً أو من نسخ الخيال؟!


وأنا أشاهد الفيلم تذكّرت حبكة الفيلم السريالي القديم "That Obsecure Object of Desire" للكاتب والمخرج الشهير الراحل "لوي بونويل"، التي تنطوي في عدّة ممثلين يؤدون نفس الشخصية. في هذا الفيلم قد نشعر أننا، مثل "أنتوني"، مخدوعون بحبكة ملتوية ومؤامرة خبيثة، فما تبدو أنها حبكة درامية مأساوية تتحول شيئاً فشيئاً إلى حبكة إثارة نفسية، وذلك ما يجعل الفيلم جاذباً للانتباه طوال الوقت، دون أي شعور بالملل، فنحن أمام اختبار ذهني من "زيلر"، فهل سنستطيع اجتيازه؟

لقد عشت حرفياً مع "أنتوني"، من منظوره الخاص، في متاهته الذهنية، التي لا سبيل للخروج منها، وكل محاولة للخروج من شأنها عرقلة الأمور لمرحلة أصعب وأكثر تعقيداً، والمونتاج المتقن ساهم في تعقيد الأمور ورصد حالة الشتات التي يعيشها "أنتوني" في واقعه المرتبك بين الزمان والمكان والشخصيات، والفنان المخضرم والعملاق "أنتوني هوبكينز" هو سر روعة الفيلم في المقام الأول، فقد قدّم وبدون مبالغة أقوى وأجمل وأعمق أداء له في مسيرته السينمائية على الإطلاق، ومن أقوى الأداءات التي شاهدتها في السنوات الأخيرة، فقد تقمّص شخصية "أنتوني" بإبداع وإتقان.


لطالما اعتبرت "هوبكينز" واحداً من أفضل 10 ممثلين بالنسبة لي في السينما، وقد أدهشني بأداء يسلب الحواس ويلامس المشاعر بشخصية "جاك لويس" في الفيلم العظيم "Shadowlands" الذي أعتبره من أفضل الأفلام التي شاهدتها في حياتي، وأيضاً بشخصية "هانيبال ليكتر" في الفيلم الرائع "The Silence of The Lambs"، التي أبدع فيها جداً، وقد اعتبر النقّاد والجماهير أداءه في الفيلم أفضل تجسيد لشخصية شريرة في تاريخ السينما، وقد نال عنه جائزة الأوسكار لأفضل ممثل.

لقد استمتعت بأدواره الرائعة في العديد من الأفلام الجميلة، مثل: "Howards End" و"The Lion in Winter" و"84 Charing Cross Road" و"Hitchcock" ومؤخراً "The Two Popes". إنه حقاً فنان مبدع، والجدير بالذكر أن الكاتب والمخرج "فلوريان زيلر" حينما بدأ في كتابة النص، لم يتصوّر ممثلاً آخر لأداء الشخصية غير "هوبكينز"، حيث أطلق اسم "أنتوني" على الشخصية، وكذلك تاريخ ميلاده الحقيقي، وقد عرض عليه النص في عام 2017، وأخبره بأنه لن يقوم بإخراج الفيلم إلا حين يقبل بالمشاركة في بطولته، وأنه سينتظره إنْ كان مرتبطاً بأعمال أخرى، وبالفعل هذا ما حدث، وكانت النتيجة تستحق الانتظار بكل تأكيد.


الفنانة المبدعة "أوليفيا كولمان" أعتبرها من أفضل الممثلات البريطانيات في الفترة الأخيرة، ومن المؤسف أنها لم تشتهر إلا منذ سنوات قليلة، فقد كانت مغمورة في أعمال محلية بسيطة ومتواضعة، بالرغم من أنها ممثلة موهوبة جداً، وقد عرفتها للمرة الأولى في المسلسل القصير "The Night Manager" الذي تألقت فيه وقدّمت أداءً رائعاً، ومن ثم فيلمها الأشهر "The Favourite" الذي نالت عنه جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة، وكانت تستحقها حقاً، كما أبدعت في تجسيد شخصية الملكة "إليزابيث الثانية" في الموسمين الثالث والرابع من المسلسل الرائع "The Crown".

في هذا الفيلم أدّت "أوليفيا كولمان" شخصية "آنا" بشكل جميل ومذهل ومؤثر، وتعابير وإيماءات وجهها كافية لتجعلني أقول أنها قدّمت هنا أقوى أداء لها كممثلة، فكمية المشاعر والأحاسيس في الشخصية تجبرني كمُشاهد أرغب في البكاء، فمن الصعب أن تكون مريض بالزهايمر، ومن الصعب أيضاً أن تقوم برعاية مريض بالزهايمر.


سيكون تأثير هذا الفيلم عميقاً على من يشاركون "آنا" محنتها، فمن لديه فرد من عائلته أو صديق أو شخص يحبه مصاب بالزهايمر، حيّاً كان أو ميتاً، سيشعر بارتباط شديد مع الفيلم وشخصيتَيْ "أنتوني" وآنا"، ولذلك أنا أشيد مرة أخرى بالنص السينمائي المُحكم والمبتكر الذي صاغه "فلوريان زيلر" و"كريستوفر هامبتون"، حيث كان سرد القصة مبهراً ولا تشوبه شائبة.

"كريستوفر هامبتون" هو من كتّاب النصوص المبدعين في المسرح والسينما، وخصوصاً في الاقتباسات الأدبية، فقد أدهشنا بنصّه السينمائي لفيلم "Atonement" من رواية الكاتب "إيان ماك إيوان"، الذي ترشّح عنه لجائزة الأوسكار لأفضل نص سينمائي مقتبس، ولا أنسى النص السينمائي القوي لفيلم "Dangerous Liaisons" المبني على مسرحية سابقة له ورواية شهيرة للكاتب الفرنسي "كوديرلوس دو لاكلو"، وقد نال عنه جائزة الأوسكار لأفضل نص سينمائي مقتبس.


تصميم مواقع التصوير في الفيلم كان متميزاً، وكذلك التصوير والأمور الفنية الأخرى، والموسيقى التصويرية كانت منسجمة مع الأحداث، وقد تم استخدام مقتطفات من أعمال الأوبرا الكلاسيكية، كـ "صيّادو اللؤلؤ" للموسيقار "بيزيه"، وهذا ما جعل الفيلم أكثر جمالاً وتأثيراً.

الشخصيات في الفيلم لا يتعدّى عددهم 10، وربما أقل، والفيلم مستند بشكل كلي على المبدع "أنتوني هوبكينز" طوال مدة عرضه التي تتجاوز الساعة والنصف، ومن ثم على المبدعة "أوليفيا كولمان"، وقد كان أداء بقية الممثلين متميزاً، وأبرزهم: "إموجين بوتس" و"أوليفيا وليامز" و"مارك غاتيس" و"روفس سويل".

ترشّح الفيلم بجدارة لنيل 6 جوائز أوسكار، لأفضل فيلم وأفضل نص سينمائي مقتبس وأفضل ممثل "أنتوني هوبكينز" وأفضل ممثلة مساعدة "أوليفيا كولمان" وأفضل مونتاج وأفضل تصميم مواقع.


هناك لحظات في الفيلم لا أستطيع وصف مدى روعتها وقسوتها، فواقعيتها بصدق أداء "هوبكينز" و"كولمان" يجعلني أتيقّن أن السينما لا زالت تنبض بالحياة والمشاعر، بعد خيبات الأمل الكثيرة مع الأفلام التجارية والمليئة بالأجندات المقرفة والاستمالات العاطفية المصطنعة، فهذا الفيلم يعيد مجد السينما الأصيلة النقية، التي تتناول مواضيع إنسانية نبيلة تمس جميع البشر من كل الأطياف والأديان، فلا شيء أكثر نُبلاً من مواضيع مثل البر بالوالدين وحب الأبناء، التي يحث عليها ديننا الحنيف وفطرتنا الإنسانية.

لقد انتظرت هذا الفيلم عدّة شهور، وكنت متحمّساً جداً لمشاهدته، وحين شاهدته أخيراً فاق توقعاتي من كل النواحي، فقد كان جميلاً ورائعاً ومؤثراً ومؤلماً، وأصنّفه وبلا منازع أفضل فيلم بعام 2020.