Orchestra Seats
كيف للأمور البسيطة أن تغيّر حياة الأشخاص بشكل لا يمكن تصوّره أبداً؟!
لا يتوجّب على
الأفلام أن تكون معقّدة، ولا تتطلّب طرح أمرٍ محدّد أو تبنّي فلسفة معيّنة. ليس من
الضروري أن يكون هناك معنى أعمق وراء استكشاف شرائح في حياة الشخصيات المختلفة.
هذا ما اتّبعته المخرجة والكاتبة "دانييل تومبسون" في فيلمها
"مقاعد الأوركسترا"، وهو فيلم فرنسي كوميدي يرصد تفاعل فتاة شابّة في
حياة ثلاثة أشخاص، وكيف وعن غير قصد تقوم بتغييرهم. أداء الممثلين مؤثّر جداً،
والحوار قمّة في الروعة، والقصة تتّبع أسلوباً فكاهياً بمهارة لإمتاع المشاهدين.
استخدام مصطلح
"كوميديا" لوصف الفيلم يحتاج إلى توضيح. إنّ هذا الفيلم ليس أحد المهازل
الفرنسية الحمقاء التي تدعو العالم للتفكير بأنّ الفرنسيين قد فقدوا عقولهم، بل هو
أقرب إلى نموذجٍ هادئ من الكوميديا، والذي تعتبره هوليوود دراما خفيفة. هناك
العديد من المشاهد المسلّية التي تخطف الضحكات، وذلك يعتمد على ما يتحلّى به
المشاهدون من روح الدعابة. المخرجة اعتمدت على الحياة الواقعية في رسم شخصياتها وتحديد
ظروفهم ومن غير التعمّق في الخيال، فقد أرادت تصوير الواقع من وجهة نظر بسيطة
وخالية من التعقيدات.
معظم الأحداث تدور
في مقهى باريسي يقع عبر الشارع بين "معرض فنّي" و"قاعة للعروض
الموسيقية" و"مسرح". تأتي "جيسيكا" للبحث عن عمل مناسب
في باريس، ولحسن حظّها تعثر على وظيفة نادلة في المقهى، وفي هذه الأثناء في المسرح
تتمرّن الممثلة الشهيرة "كاثرين فيرسن" للمسرحية التي من المقرر أن
تُفتَتح قريباً. في قاعة العروض الموسيقية، يمر عازف البيانو الشهير "جان
فرنسوا ليفوغ" بأزمة منتصف العمر، ويريد التوقّف عن أداء العروض والاستقرار،
غير أنّه يشعر بالخوف من زوجته "فالنتين"، وأخيراً في المعرض الفنّي نجد
"جاك غرومبيرغ" وهو رجل مسنّ يستعد لعرض الأعمال الفنّية التي جمعها
خلال مسيرته الفنية في مزادٍ علني، ويتصالح مع ابنه "فريدريك".
بشكل تدريجي تؤثّر
"جيسيكا" في حياة هؤلاء الأشخاص، وبالمصادفة تكسب للممثلة
"كاثرين" مقابلة مع مخرج أمريكي مرموق، وبطيبتها ورقّتها تتعاطف مع
العجوز "جاك" وابنه. من خلال ذلك تتعلّم "جيسيكا" أموراً
قليلة حول الفن والموسيقى والمسرح.
هذا الفيلم هو
فرصة ثمينة للممثلين كي يُظهروا بضاعتهم، والنجمة الفرنسية الصاعدة "سيسيل دو
فرانس" قدّمت أداءاً رقيقاً ومرِحاً في شخصية "جيسيكا" التي تقودها
سذاجتها للتفاعل مع الشخصيات الأخرى بكل عفوية. جميع الممثلين تقمّصوا شخصياتهم
بشكلٍ متقن ومذهل، وللمخرج الأمريكي الراحل "سيدني بولاك" لفتة جميلة
بالظهور في دور قصير لمخرجٍ يحاول ضمّ ممثلة فرنسية لفيلمه الضخم. هذا الفنان
الكبير قدّم أعمالاً مميّزة خلال مسيرته السينمائية كمخرجٍ قدير وأهمّها الفيلم
الرائع "خارج إفريقيا".
فيلم "مقاعد
الأوركسترا" هو نموذج مثالي للكوميديا الفرنسية، وكلمة "ممتع" هي
الأنسب لوصفه. إنّه يزوّد كل القصص بنهايات معقولة، وليست هناك مواعظ ثقيلة أو
نظرة تعمّقية في أسرار الحياة. بمشاهدتنا لهذا الفيلم سنختبر كيف للأمور البسيطة
أن تقلب حياة الأشخاص وتؤثّر فيهم بشكل لا يمكن تصوّره. تم اعتماد الفيلم من لجنة
جوائز الأوسكار كالفيلم الرئيسي باسم "فرنسا" لعام 2006 والذي اختير
لاحقاً مع 8 أفلام غيره من دول أخرى للدخول في القائمة النهائية لجائزة أفضل فيلم
أجنبي.
الموسيقى
التصويرية لـ "نيكولا بيوفاني" تضيف للفيلم نكهة سحرية مميّزة كالتي
تذوّقناها في الفيلم الإيطالي الرائع "الحياة جميلة". نشعر بالنسيم
العليل من الفيلم الذي يسعى لتحقيق غايات إنسانية نبيلة. "مقاعد
الأوركسترا" لا تطلّ فقط على حفلة موسيقية، بل تطّل أيضاً على أجمل عناصر
الحياة. أدعو الجميع للجلوس عليها وعيش أجمل اللحظات الثمينة بصحبة الموسيقى
والمسرح والفن و"الحُبّ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق