الخميس، 14 نوفمبر 2013

Hereafter 2010


Hereafter

حين نعيش أصعب تجربة في الحياة.. تجربة الموت!!

 

فيلم "الآخرة" للمخرج "كلينت إيستوود" يدرس فكرة حول الآخرة بكل شفافية ورقّة وجمال. لقد تفاجأت بأنها أسرتني. إنّه لا يتوغّل في العالم الآخر، بل يقوم على فكرة تتجنب فرض نفسها على الواقع وأن لا تتجاوز ما هو مستحيل. هي فكرة الوعي بعد الموت الظاهري. هذا أمرٌ معقول وقابل للتصديق، فهناك الكثير ممن نجوا من الموت بأعجوبة والذين ينقلون نفس الذكريات حول الضوء الأبيض ورؤية أشخاص أعزّاء والشعور بالسلام.
يبدو أنّ أحد الشخصيات في الفيلم يمتلك هبة نفسية نادرة. لكن، هل هو حقاً يستطيع التواصل مع أشخاص من الجانب الآخر؟ بعض أشكال توارد الخواطر قد تكون ممكنة، ولربما يستقبل بسهولة ما قد يرغب الأشخاص في سماعه، أو ما قد يحتاجون إلى معرفته من قِبَل أحبابهم الراحلين. إنّه يجلب شيئاً من الجانب الآخر، وقد لا يتشكّل في عقول عملائه، أو ربّما هم يعرفون هذا الشيء ويوّدون سماعه.
هذا موضوع يُعير نفسه للإحساس والهُراء النفسي. كم هو غريب وجود عدد كبير من الناس الذين يؤمنون بمفاهيم العصر الجديد ونهاية العالم، والتي تجذبهم لتجربة القدرات الغير اعتيادية على أنفسهم والآخرين دون اكتراث بما هو معقول أو قابل للتصديق. هذا الفيلم سيجعل بعض الأشخاص مضطربين وغير مستقرّين. إنّه يكشف أنّ معظم الوسطاء الروحانيين هم في الحقيقة محتالون، ويفترض أنّ أحدهم هو "الشيء الحقيقي". لكن، ماذا بالتحديد هو ذلك الشيء الحقيقي حوله؟
هذا فيلم للأشخاص الأذكياء الذين يشعرون بالفضول الطبيعي حول معرفة ما قد يحدث حين تُغلَق الجُفون. الفيلم يروي ثلاث قصص رئيسية. القصص تلتقي عند النهاية في واحدة من تلك الصُدَف الغريبة التي لا تخطر على البال. هل هذا ممكن؟ نعم. هل هي متوقعّة؟ كلّا. الصُدَفْ أبداً غير متوقعة، ولهذا السبب نشعر بها. الشخصيات يتصرّفون طوال الفيلم بطرق تبدو منطقية ومعقولة بما فيه الكفاية. الاحتمالات تبقى مفتوحة، والتي ينبغي أن تكون كذلك. يجب علينا أن نعيش الحياة التي نعرفها دون الاعتماد على أي شيء وراء الأفق.
فيلم "الآخرة" من بطولة الفنان "مات ديمون" الذي يؤدي شخصية "جورج"، وهو رجل يؤمن بإخلاص أنّه قادر على التواصل مع الموتى، ولكنّه يهرب من هذه القدرة النادرة ويعمل في وظيفة عادية. النجمة "سيسيل دي فرانس" بشخصية "ماري"، وهي مذيعة في التلفزيون الفرنسي. النجمة "برايس دالاس هاورد" تلعب شخصية "ميلاني"، وهي تلميذة طبخٍ شابة تحمل خوفاً في قلبها وسرّاً مظلماً. هناك أيضاً شخصية الرجل الذي فقد زوجته، والأخوين التوأم "ماركوس" و"جيسون"، والذي يلقى أحدهما حتفه بعد أن تدهسه شاحنة.
أنا لن أذكر هنا الصدمات المفاجئة التي يتعرّض لها بعض الشخصيات. هي تبقى مفاجآت كما هي في أي شيءٍ آخر، وفيلم "الآخرة" هو فيلم معقول. هناك أحداث مخيفة، لكن المخرج "كلينت إيستوود" يتعامل معها، ليس من أجل الأحاسيس، بل ليرينا كم نحن قريبين جداً من "النسيان" في أيّة لحظة. "ماري" تخضع لتجربة الاقتراب من الموت. هل الأشخاص في هذه الحالة هم موتى حقاً، أو أنّهم يعاونون من الرؤى التي يولّدها عقل الإنسان في وضع الإغلاق الأخير؟
القدرات التي يمتلكها "جورج" تبدو حقيقية، على الرغم من أنّ ما تثبته تلك القدرات يصعب قولها. هناك تلك اللحظة في الفيلم المليئة بالحب والرقة، عندما يقول شيئاً، قد يكون صحيحاً أم لا، ولكنه كلامٌ لطيف في الحالتين. حين يمسك يدَيّ أحد الغرباء، تأتيه رؤية بتوارد الخواطر، لكن الفيلم لا يُعلن أبداً أنّ رؤاه تأتي حرفياً من أرواح الموتى.
الفنّان "كلينت إيستوود" وطاقم الممثلين يحقّقون "نغمة" لا تضغط على الفكرة، بل تحتضنها. لا تشبه الحلم، ولكنها كاستحضار فكرة خيالية. هؤلاء الشخصيات لا يندفعون نحو "الحل" في الحبكة القصصية. ليس هناك "حل" لقصصهم. هناك درجات مختلفة من العزاء، أو قد لا توجد. إنّهم لا "يلكمون" الحوار. إنهم يفتقرون لليقين الذي يريح قلوبهم. "جورج" بالتحديد، كتوم وحزين، لأن قدراته أصبحت عبئاً عليه.
هناك حبكة فرعية مميزة في الفيلم، تدور حول "ميلاني" التي يقابلها "جورج" كزميلة في أحد دروس الطبخ. لقد خاضت تجربة الضياع، و"جورج" لا يريد الدخول إلى عقلها. إنّه يتوق لعيش حياة طبيعية. القدرة على قراءة الأفكار هي "لعنة" لا تُحتَمل. إنّها تؤثر على علاقتهما بشكل صارم وحاد. "ماري" شخصيتها رائعة، ونحن كمشاهدين نشعر بالتعاطف والشفقة تجاهها، ونفهم جيداً أنّ ما حدث لها في المشهد الافتتاحي المروّع قد غيّرها كلياً.
"فرانك ماك لارن"، بشخصية "ماركوس" الولد الجاد المتزّن، يبحث عن شقيقه التوأم الذي يعتبره مكمّلاً له، ويُفترض لشخصيته أن تكون مثيرة للشفقة، وأن تجعله ضعيفاً وشفّافاً، ولكنّه لا يزال محتفظاً بعزيمتة ورباطة جأشة ويتمنى أن يجتمع هو ووالدته معاً في المنزل يوماً ما.
"كلينت إيستوود" ليس فقط المخرج والمنتج، بل أيضاً هو مؤلف الموسيقى التصويرية للفيلم، فكم هو أمرٌ رائع أن يكون للمخرج رؤية موسيقية تجعله يبدع في إخراج كل مشهد. لقد استعان "إيستوود" بمقطوعة "كونشيرتو البيانو الثانية" للموسيقار الكبير "راخمانينيوف" في بعض المشاهد، مما زاد من روعة الفيلم. العشر دقائق الأولى من الفيلم كانت كفيلة بأن يترشّح لجائزة أوسكار بعام 2010 لأفضل مؤثرات بصرية، فقد كان المشهد الافتتاحي قمّة في الإبداع والإتقان.
الفيلم هو مادة أصلية، كتبها للسينما "بيتر مورغان"، و" كلينت إيستوود" قال في أحد المقابلات أنّ "مورغان" لا يؤمن بالآخرة. أنا لا أعلم إن كان "إيستوود" هو الآخر كذلك، وعلى أيّة حال، هذا الفيلم يجسّد كيف أنّ الحب يجعلنا "نحتاج" أن تكون هناك آخرة. إنّه فيلم هو رجل مسالم، ليس لديه ما يثبته غير حرصه على الأحياء وحبّه لهم.
 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق