الاثنين، 4 نوفمبر 2013

The Apartment 1960


The Apartment

التحفة الكلاسيكية لـ "بيلي وايلدر" حول الوجوه المتعدّدة للسعادة والتعاسة

 

هناك موجة من الكآبة تمرُّ خلال فترة الأعياد بين الأشخاص الذين لديهم مكان يذهبون إليه والأشخاص الذين يلازمون أماكنهم. فيلم "الشقّة" مؤثّرٌ جداً لذلك السبب الدفين. تدور أحداثه في أقصر أيّام السنة، حين يهبط الظلام بسرعة والشوارع يكسوها البرد وحين يعود بعض الأشخاص بعد انتهاء حفلة العيد بمقرِّ العمل إلى منازلهم للبقاء مع عائلاتهم، والبعض الآخر يتوجّهون إلى الشقق ولم يكلّفوا نفسهم "عناءَ" نصب شجرة العيد. أكثر من أيّة ليلة أخرى من السنة، يشعر الشخص الوحيد بأنّه سُلِبَ من شيءٍ كان يجده في طفولته، ولم يعد موجوداً بعد الآن.
نُقابل البطل "سي سي باكستر"، وهو شاب وحيد يعيش في "الشقّة"، وما يدعو إلى السخرية هو أنّه لا يستطيع الذهاب إلى شقتّه في أغلب الأحيان، وذلك لأنّه جرت العادة بأن يستعيرها المدراء التنفيذيون في الشركة التي يعمل فيها للسهرات الخاصة. بشكل ما يُصبح المسئول عن سلسلة علاقاتهم الغير مشروعة، وهم يحاولون إرضاءه بتلميحات حول العلاوات والترقيات. جاره الطبيب "دريفوس" يستمع ليلياً لضحكات العشّاق وضجيجهم من خلال الجدران، فيعتقد أنّه عاشقٌ ليس له مثيل، في حين أنّ "باكستر" يسير على الرصيف المقابل وينظر باستياء إلى نافذة غرفته المضاءة.
عندما قام الفنان "بيلي وايلدر" بإخراج فيلم "الشقّة" بعام 1960، كانت قضية "الرجل العامل" حديث الساعة. تُظهر المشاهد الافتتاحية "باكستر" كموظف في حشدٍ كبير من عبيد الأجور، ويعملون جميعاً في غرفةٍ مكاتبها موضوعة في صفوفٍ متوازية إلى ما لا نهاية. يريد المخرج أن يبيّن كيف يُعامَل آلاف الموظفين باحتقارٍ ولا مبالاة في الشركات القاسية.
"باكستر" ليست لديه صديقة، ولا حتى عائلة على ما يبدو، وهو يحلم بوظيفة أفضل ومكتبٍ خاصٍ به. في أحد الأيّام يتغلّب على خجله ويطلب من إحدى فتيات المصعد أن تخرج معه. إنّها الآنسة "كوبليك"، والتي تقبل بالأمر في آخر لحظة ومن غير اقتناع بعد مرورها بأزمة عاطفية مع السيد "شيلدريك"، وهو أحد المدراء في الشركة. ظنّت لوهلة أن علاقتها مع المدير قد انتهت، ولكن يبدو الآن أنها لا تزال قائمة، ويظلّ يخبرها أنّه سيطلّق زوجته من أجلها، ولكنّه يراوغ.
النص السينمائي بقي على توازنٍ دقيق بين المهزلة والحزن، ومن خلال الأحداث نشعر أنّ "باكستر" والآنسة "كوبليك" بينهما نوع من الإعجاب ومشاعر حقيقة قد تقود تلقائياً لعلاقة حب صادقة. إنّهما عبيد في نظر الشركة القاسية، و"باكستر" يريد أن يكون مساعداً للمدير، و"كوبليك" تريد أن تكون زوجةً للمدير. كلاهُما يُخدَع بمفهوم كلمة "مدير"، ولا يستطيعان رؤية السيد "شيلدريك" على أنّه شخصٌ غير جديرٍ بالثقة بتاتاً.
فيلم "الشقّة" هو كوميديا تهكّمية ساخرة يغمرها الحزن، ولا نرى أفلاماً بهذا الهيكل الغريب، ولكن المخرج والكاتب "بيلي وايلدر" هو سيّد الإبداع في الأفلام ويصعب تصنيف أفلامه ضمن فئة معيّنة بسبب الأسلوب المميّز الذي يبني عليه القصص. الفنان الراحل "جاك ليمون" قدّم أحد أجمل أدواره السينمائية، وشخصية "باكستر" مميّزة بإظهاره كموظّف مواظب على عمله ومتملّق أحياناً، وللجيران كشخصٍ غريب الأطوار، وللآنسة "كوبليك" كصديق ومُنقذ وعاشق. "بيلي وايلدر" و"جاك ليمون" هما ثنائيٌ رائع، وقد قدّما معاً كمخرج وممثل 7 أفلامٍ مميّزة، وأشهرها الفيلم الرائع "البعض يفضّلها ساخنة".
الفنانة "شيرلي ماكلين" أبدعت في أداء شخصية الآنسة "كوبليك" بملامحها الساذجة، وأثبتت خلال مسيرتها السينمائية الطويلة أنّها نجمة موهوبة بالظهور في أدوارٍ متنوعة ومختلفة. الأمر المميّز فيها أنها لا تُظهِر الآنسة "كوبليك" كفتاة تنجذب للكلام المعسول، بل كفتاة انْطلت عليها الأكاذيب مِراراً في الماضي، والتي تمتلك قلباً طيّباً ولكن صبرها محدود. إنّها تستعد لتقديم التنازلات اللازمة لكي تصبح السيدة "شيلدريك" القادمة، والجديّة التي تكمن خلف أداء "شيرلي ماكلين" تساعد على إرساء الصورة ونشعر بالخطر النفسي الذي يحيط بها.
بعد مرور أكثر من 50 عاماً، لا يزال فيلم "الشقّة" يحتفظ بشعبية كبيرة لدى عشّاق السينما، لأنه فيلم واقعي نادر يعالج قضايا مهمة بأسلوب مميّز. المخرج "بيلي وايلدر" تغمره العاطفة ويمتلك حسّ الشعور بالآخرين، فغالباً ما نرى شخصياته من منظور مختلف، وخير مثال هي شخصية رجل الأعمال "لينوس لارابي" التي أدّاها الفنان الراحل "هامفري بوغارت" في فيلم "وايلدر" السابق "سابرينا" والذي لا يقل روعة عن هذا الفيلم. لم نستطع تحديد ملامح تلك الشخصية على عكس شخصية "سابرينا" التي أظهرتها الفنانة المذهلة "أودري هيبورن" بكل عفوية وبراءة. فيلم "الشقّة" يبيّن مدى أهميّة الوظيفة وشعور الموظف تجاهها وكيف يحاول وبشتّى الطرق تحقيق ما هو أفضل في حياته، وإن كان الأمر يتطلّب استخدام أساليب ملتوية. حقّق الفيلم نجاحاً منقطع النظير في فترة عرضه وقد حاز على 5 جوائز أوسكار لأفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل نص سينمائي أصلي وأفضل مونتاج وأفضل تصميم مواقع، وترشّح لنيل 5 جوائز أخرى لأفضل ممثل "جاك ليمون" وأفضل ممثلة "شيرلي ماكلين" وأفضل تحرير صوتي وأفضل مونتاج وأفضل ممثل مساعد "جاك كروشن" عن أدائه الرائع لشخصية الطبيب "دريفوس". "فريد ماكموري" أضاف للفيلم نكهة مميزة بظهوره في شخصية المدير "شيلدريك".
السبب الرئيسي في روعة الفيلم هو التفاعل بين "باكستر" والآنسة "كوبليك". هناك الكثير من عناصر الانجذاب تجاه أحدهما الآخر، وليست بالضرورة أن تكون جسدية، وعلاقتهما لا تستند على المظاهر الخارجية، بل على نفوسهما المتقاربة. بعد كل شيء، العنصر الحاسم في توليد شيءٍ أكثر عمقاً من مزاحهما اللطيف وروحِهما المرِحة هو "محاولة انتحار" غير متوقّعة. إنّهما يكشفان الكثير من الأمور لبعضهما الآخر خلال تلك الـ 48 ساعة في شقّة "باكستر"، ولا يدركان ذلك إلى أن تفرّقهما الأحداث.
 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق