الأحد، 3 نوفمبر 2013

Ladies in Lavender 2004


Ladies in Lavender

حين يعزف الكمان على أوتار العُمر الذي مضى

 


عنوان فيلم Ladies in Lavender هو عنوانٌ تعيسٌ لفيلم فتراتي خلّاب، والذي يعني: "سيّدات في الخزامي"، ويشير ذلك إلى نبتة "الخزامي" أو "اللافيندر" التي تضعها المسّنات عادّة في الأدراج والخزانات. الشقيقتان المسنّتان هما "جانيت" و"أورسولا" ، وهما أيضاً نبتة "الخزامي" إنْ فهمتهم ما أقصده.

يدور الفيلم حول هاتين الشقيقتين اللّتين تعيشان في منزلٍ ناءٍ على ساحل "كورنوول"، وكاتب النص السينمائي والمخرج "تشارلز دانس" قد اتخذ أفضل قرار حين اختار أعظم نجمتين في بريطانيا لأداء دورَي البطولة. كل إيماءة وجه من "جودي دنش" و"ماغي سميث" تستحق المشاهدة، لأنهما تضيفان نسيجاً جميلاً للفيلم بقدر ما تضيفه اللقطات الأخّاذة لقرى ومدن وسواحل جنوب غرب إنجلترا. إنّ تعبيراتهما خرائطٌ نسير وفقاً لها، وعيونهما مرايا لأرواح الشخصيات الأخرى أكثر من شخصيتيهما.

تم إنتاج الفيلم بعام 2004، وقد اقتُبِسَ من قصة قصيرة لـ "ويليام جي لوك". شاب غريب تقوده الأمواج إلى الساحل بالقرب من منزل الشقيقتين، ويُستَنجدُ بالجيران للمساعدة في نقله، ويُستدعى طبيب القرية لإسعافه بغرفة الضيوف في منزلهما. إنّ الجروح تملأ جسده ومن بينها كسرٌ في كاحله، مما يلزمه ذلك للبقاء في تلك الغرفة الصغيرة لفترة طويلة.

إنْ كانت الشقيقتان أصغر سنّاً، سيكون الوضع مخزياً في البقاء طوال هذه الفترة مع شاب غريب بغاية الوسامة، ولكن كما يُقال: "إنّنا جميعاً في نفس العمر من الداخل"، و"أورسولا" تجد نفسها منجذبة بشدة لذلك الشاب، كأي فتاة مراهقة مفتونة بطالبٍ معها في المدرسة، رغم أن المنطق يقول لها - وهي تنظر إلى تجاعيد وجهها في المرآة وكذلك حين تحاول الوقوف بصعوبة على ساقَيها الضعيفتين – أنّها امرأة مسنّة، والمسّنات لا شأن لهنّ في التفكير بمثل هذه الأمور.

تلاحظ "جانيت" ذلك، وتسرع للاستطلاع والتوبيخ. بطرق مختلفة تتنافس كلٌ منهما على جذب اهتمام الشاب. "جانيت" تستطيع التواصل معه بالألمانية وإنْ كانت لا تجيدها تماماً، وأيضاً تمسك له المرآة أثناء قيامه بحلاقة ذقنه وقصِّ شعره، ومن جانبها تندفع "أورسولا" كذلك للتواصل معه وتقوم بكتابة اسم كلّ شيء في الغرفة على قصاصة ورق، وتمضي قُدماً في تعليم الشاب "آندريه" اللغة الإنجليزية. اعتادت "جانيت" العزف على البيانو، ويبدو أنّ "أندريه" لا يحتمل ذلك، ويخفي ردّه الفعل بقوله أنّه يفضّل موسيقى الكمان، ويتّضح لاحقاً أنّه عازف موهوب.

هنا بالتحديد تتعقّد الأمور. عزف "أندريه" يجذب سائحة روسية شابة، و"أورسولا" تشعر فوراً أنها تقف أمام منافِسة شرسة. إنّ عزفه الرائع يصل لمداخل القرية بأكملها مثل حصاة ملساء تتقافز في الماء. الأمر سيئٌ بما فيه الكفاية، حيث أنّ على الشقيقتين "تقاسُم" هذا الشاب مع سكّان القرية، والأمر الأسوأ هو تخيّل أنّه قد يقع في حب تلك الشابّة الروسية ويتركهما. تقول "أورسولا" بغضب: "إنها تخيفني، وتبدو كالساحرة الشريرة في القصص الخيالية".

الأحداث تدور في نهاية الثلاثينيات، وتحديداً قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، والحياة الروتينية المملة التي تعيشها الشقيقتان لم تلمّح أبداً لما سيحدث من أمورٍ قد تقلب حياتهما رأساً على عقب. نعلم أن "جانيت" كانت متزوجة وقد فقدت زوجها في الحرب العالمية الأولى، أمّا "أورسولا" فقد كانت وحيدة طوال الوقت ولم تختبر الحب والزواج، ولذلك نجدها حسّاسة جداً وحزينة. "آندريه" ليس حورية بحر أو ما شابه، وعلى ما يبدو أنّه فرّ هارباً من التجنيد. يقوم بإخبارهما أنّه كان متّجهاً إلى أمريكا عندما عثروا عليه. فهل كان يخطط للذهاب إلى هناك سباحةً؟!

الفنان "دانييل برول" أبدع في تقمّص تلك الشخصية الغريبة، واستطاع تفعيل عنصر الغموض في شخصيته وفي عقول المشاهدين. نحن لا نعرف من هو وماذا يريد ومن أين جاء!! الغموض والشك يحيطان به من كل جانب. عندما تقوم "أورسولا" بتدفئة ملابس النوم لـ "آندريه" عند النار وثم تتسلّل إلى غرفته وتشاهده وهو نائم في تلك الملابس، لا تستطيع وصف شعورها ما إذا كانت سعيدة أو حزينة. الأمر الغريب هو اعتقادها أنّه سيبقى في منزلهما القديم إلى الأبد، كالعصفور السجين.

أعجز عن وصف روعة الفنانتين المذهلتين "جودي دنش" و"ماغي سميث"، فهما روح الفيلم وقلبه ومن غيرهما لن يكون أبداً بهذه الروعة. بينما تصل الممثلات إلى حالة الهلع واليأس عندما لا يتبقى لهن شيء في أفلام السينما سوى أدوار "المرأة العجوز"، لا نجد "جودي دنش" أو "ماغي سميث" تبدوان قلقتين حول ذلك. إنّهما تَعِيان تماماً أنّ الحيلة لا تكمن في تمثيل "العمر" بل في تمثيل "الشخصية". أفضل السنوات ليست وراءهما، بل بِداخلهما.

النجمة "ناتاشا ماكيلون" كان أداؤها مميّز في الفيلم، مع أنّ الشقيقتين شعرتا بالاستياء، فهي كما تعلمون الشابة الروسية التي تنجذب لـ "آندريه". وجود الفنانة الكوميدية "ميريام مورغوليس" كان رائعاً، لأنها تضيف للجو الحزين كمّاً من المرح والكوميديا العفوية في شخصية الخادمة "دوركاس" بمنزل الشقيقتين.

الفنان "تشالرز دانس" الذي اشتهر كممثل سينمائي، خاض هنا تجربته الإخراجية الأولى والوحيدة، فقد قرّر فجأة إنجاز هذا الفيلم الذي كتب نصّه وأنتجه، وأرى أنها تجربة ناجحة وأتمنى مشاهدة أعماله القادمة. الفيلم مليء بالمفاجآت وأكثرها غرابة هي الحبكة المتواضعة التي استحوذت على اهتمامنا. الحفلة الموسيقية رائعة بشكل يصعب وصفه ونحن نستمع لموسيقى عازف الكمان العظيم "جوشوا بيل".

هذا الفيلم البسيط وصل إلى القمّة من غير السرد المفصّل أو المقدّمات المملة أو الشخصيات المتقلّبة، مثل الهدية الغريبة التي جاءت من البحر والتي أثّرت على قرية كاملة بطريقة سحرية. نرى أجمل الذكريات في عينَي "أورسولا" وهي تستمع للكمان الذي يعزف على أوتار عمرها الذي مضى، ونشعر بها جميعاً وهي تعيش لحظات الرجاء، وتتملّكنا رغبة في البكاء.
 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق