الاثنين، 11 نوفمبر 2013

Oliver Twist 2005


Oliver Twist

حين يَجِدون العطف من الغرباء.. "ديكينز"، "بولانسكي"، و"أوليفر تويست"

 


 فيلم "أوليفر تويست" للمخرج "رومان بولانسكي" وفيلمه السابق "عازف البيانو" يبدوان مختلفَين تماماً عن بعضهما، ولكنّي أرى صلة عاطفية عميقة تربط بينهما. "أوليفر تويست" يروي قصة ولد يتيم في مدينة خطيرة، ولن ينجو بوجود أولئك الأشخاص الذين يستغلونه بشكلٍ بشع. "عازف البيانو" يدور حول رجل يهودي يخفي نفسه في مدينة "وارسو" أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي لحظة مصيرية يقابل جندياً ألمانياً طيّباً. "أوليفر" و"عازف البيانو" كلاهما يستفيد من عطف الغرباء.
"أوليفر" كان في العاشرة من عمره حين وجد نفسه في عالم "فاغن والنشّالين الصغار"، و"بولانسكي" كان في العاشرة أيضاً بعام 1943 حين قام النازيّون بأخذ والديه من حي "كراكوف" ببولندا، وقد بقي وحيداً يتنقّل من ملجأ إلى آخر في المدينة وضواحي البلاد. في هذه الأجواء الحربية المأساوية التي تعم بولندا، قد يكون التقى أو رأى أشخاصاً مثل "فاغن" و"بيل سايكس" و"دودجر"، وقد يكون لجأ إلى السرقة والدعارة من أجل البقاء. بمعنى آخر، "أوليفر تويست" يعكس تجربته الخاصة بشكل مباشر أكثر من "عازف البيانو".
الآن فلنقم بتحويل القصة لمسارها الصحيح لكي نرى كاتبها "تشارلز ديكينز"، والذي عاش طفولة مماثلة. حين قادت الديونُ والدَه إلى السجن، تم إرساله وهو في الثانية عشرة للعمل في مصنع أحذية والذي لا يختلف عن الإصلاحية الذي بقي فيها "اوليفر" لفترة قصيرة. إنّه يتساءل في مذكراته قائلاً: "كيف يمكن وبكل سهولة أن أُلقى بعيداً في هذه السن!!". إنّ "أوليفر تويست" و"ديكينز" و"بولانسكي" جميعهم نجوا ليجدوا أنّه لا يمكن للازدهار والرخاء والنجاح محو ألم الطفولة، وفي فيلم "أوليفر تويست" يقوم "بولانسكي" بمعالجة المادة القصصية وفق نهجٍ مختلف وبتركيز عميق وليس كبقية الاقتباسات الأدبية الإنجليزية.
القصة، كغيرها من قصص "ديكينز"، تدور حول شخص صغير في السن يُلقى به في بحرٍ عاصف بالشخصيات الأكبر سنّاً. لأنّ الشخصيات الأكبر سنّاً يمتلكون القوّة ويتّخذون القرارات الحاسمة، يصبح الأمر مثيراً للاهتمام برؤية ما سيفعله "بولانسكي" بالشخصية الرئيسية في الفيلم.
من هو "فاغن"؟؟ إنّه الرجل العجوز الغريب الذي يحكم أسرة مؤلفة من النشّالين. "فاغن" هو يهودي في رواية "ديكينز"، رغم أنّ المسيحيين في الرواية هم أيضاً نُسِبَت لهم أديانهم، وتم إظهارهم في معظم الأحيان كمنافقين وسادّيين وحمقى.
نسخة "بولانسكي" لا تحدّد أبداً ما إذا "فاغن" يهودي أم لا، وكذلك لا تظهره بالشكل المعتاد كالرجل الشرير الذي يستغل الأولاد الصغار. مستغل، نعم!! ولكن شرير، كلّا!! فمن المرجّح، كما يرى "فاغن"، أنّه أنقذ الأولاد من مصيرٍ أسوأ بكثير مما كان ينتظرهم في شوارع لندن القاسية، وعلّمهم المهارات والحيل الماكرة التي تؤهلهم للاستمرار في هذه الحياة الصعبة.
يقوم رجل طيّب بإنقاذ "أوليفر" من حياته البائسة. إنّه بائع الكتب اللطيف، السيد "براونلو"، والذي يجعل من "أوليفر" شاباً نبيلاً. حُكِم على "فاغن" بالموت، و"أوليفر" يطلب مقابلته، فيقوم السيد "براونلو" بأخذه إلى زنزانة ذلك العجوز ليجدانه في حالة يُرثى لها ويشفقان عليه. إنّ "فاغن" نفسه يشفق على الحالة التعيسة التي وصل إليها. في الرواية، يطلب "أوليفر" من "فاغن" أن يصلّي معه: "آه!! يا ربّي.. اغفر لهذا الرجل البائس!!". "أوليفر" يردّد تلك العبارة في الفيلم، ويقول لـ "فاغن" أيضاً: "لقد كنت لطيفاً معي!!".
إلى حدٍ ما نقتنع بما قاله "أوليفر"، حين نقارن "فاغن بـ "بيل سايكس"، وهو أقسى الشخصيات الشريرة في روايات "ديكينز" والذي يضمر الشر لبطلنا الصغير. كون الفيلم مخلصاً من الأساس لـ "ديكينز" وبرغم محاولة الخروج من الحبكة الملتوية، إلّا أنّ "بولانسكي" يصّر على مقاومة الصراع الدرامي في الرواية، ويريد لنا أن نتعرّف على "فاغن" بشكل دقيق لنكتشف أنّه لا يستغل الأولاد، بل يكافح معهم من أجل العيش.
إنّ "فاغن" بأسلوبه "الفظ" هو ألطف بكثير من رجال الإصلاحية والقُضاة في المحاكم. عبارة: "لقد كنت لطيفاً معي" هي ليست مجرّد إضافة عاطفية مقصودة من أجل تلطيف النهاية، بل إنّي أراها منبثقة من قلب "بولانسكي" وقد تكون سبب رغبته في إخراج هذا الفيلم. إنّه بالتأكيد قابَلَ العديد من "فاغن"، والذين لم يكونوا طيّبين ومع ذلك ليسوا بذلك السوء الذي بدوا عليه.
هناك أيضاً شخصيات لا أحد ينكر طيبتها، خصوصاً السيد اللطيف "براونلو" الذي يثق بالنشّالين في إيصال المال والكتب، والمرأة العجوز في الريف التي تقدّم لـ "أوليفر" المأوى الدافئ والحنان. هناك أيضاً "نانسي" التي تضحّي بحياتها من أجله. الشر الحقيقي في الفيلم يُرَى من خلال "بيل سايكس" الذي يصل إلى نهاية شنيعة ومُرضية.
ترعرع "ديكينز" في إصلاحيات للأحداث ومؤسسات خيرية تُدار بقسوة وجشع، ومدارس لا تُدِرِّس شيئاً وهمّها المكاسب المادية فقط، والمجتمع يتغذّى على الأطفال ويقوم بتجويعهم ولا يحسن معاملتهم. للذين لم يقرأوا روايات "ديكينز" من قبل قد يصيبهم الإرباك من أسلوبه اللطيف في سرد الأحداث. إنّ أعماله ممتلئة قسوة وضراوة شديدة لدرجة تتوجب عليه إعادة السيد "براونبلو" من حينٍ إلى آخر لمجرّد إعادة الهدوء والتوازن للقصة.
فيلم "أوليفر تويست" الذي تم إنتاجه بعام 2005 هو فيلم دقيق بصرياً وتفصيلياً من غير أن يكون زاخراً بالألوان. أداء الممثلين يفوق الروعة، و"بن كينغسلي" أضاف شيئاً مختلفاً لشخصية "فاغن" المعتادة. إنّه فنانٌ مذهل ويستطيع تقمّص كل الشخصيات مهما بلغت عقدتها، إذ رأيناه في شخصية "غاندي" بأداء لا يُوصف. في هذا الفيلم حقّق الرؤية الفنية التي أرادها المخرج البولندي المبدع "رومان بولانسكي".
النجم "بارني كلارك" هو الأوليفر الصحيح بملامح وجهه وتعابيره، وقد قدّم أداءاً مميزاً للشخصية. كتب النص السينمائي "رونالد هاروود" الذي حاز على جائزة الأوسكار هو والمخرج "بولانسكي" لقاء إبداعهما في فيلم "عازف البيانو" بعام 2002. الفنانة "ريتشيل بورتمان" تأسر حواسنا بموسيقاها الرقيقة والجميلة. رواية "أوليفر تويست" هي أروع ما كتبه "ديكينز" ومن خلالها استمعَ لصوتِ ذكريات طفولته. أظن أنّ "بولانسكي" يستمع لمثل هذه الذكريات أيضاً.
 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق