الخميس، 24 أكتوبر 2013

Twelve Angry Men 1957


12 Angry Men

جريمة قتل وشكوك محيّرة و12 رجلاً على وشك الانفجار

  
فيلم "12 رجلاً غاضباً" ينتمي لأروقة المحاكم، وبمعنى أدقّ هو دورة مكثّفة في دستور القضاء تعدّ المتّهمين لمحاكمة عادلة مع افتراض البراءة. الفيلم يبدأ بشكلٍ صارم، وبصرف النظر عن المقدمة الموجزة والخاتمة الأكثر إيجازاً، كل أحداث الفيلم تدور في غرفة هيئة المحلفين بمدينة نيويورك وفي أحد أحرّ أيام السنة، ونشاهد "12 رجلاً يناقشون مصيرَ شابٍّ متهّم بقتل والده".
الفيلم لا يُظهر لنا أيّ شيء من المحاكمة باستثناء "لا مبالاة" القاضي الذي يبدو عليه الملل، فيُحيل المسألة لهيئة المحلفين. نبرة صوت القاضي تدل على أنّ الحكم أمرٌ مفروغ منه ومتوقّع سلفاً. لا نستمع للمدّعي العام ولا حتّى محامي الدفاع، ونتعرّف على أدلّة الجريمة لاحقاً مع هيئة المحلفين. معظم أفلام المحاكم تُشعرنا أنّه من الضروري إنهاء القضية مع حُكمٍ واضح، وهذا الفيلم لا يكشف أبداً ما إذا كان المتّهم بريئاً أو مُذنباً. إنّه حول الشكوك المعقولة التي تدور في عقول أعضاء هيئة المحلفين بشأن الجريمة.
قاعدة "الشك المعقول" تؤمن بأنّ المتّهم بريءٌ حتى تثبت إدانته، وهي واحدة من أهم القواعد المستنيرة في دستور القضاء، على الرغم من أنّ الكثيرين يواجهون صعوبة في تقبّلها وتنفيذها على أرض الواقع. العضو الثالث يقول: "إنها قضية منتهية" في بداية اجتماع الأعضاء في الغرفة الصغيرة الخانقة. حين يُجرى الاقتراع الأول نجد جميع الأعضاء يوافقون على الحُكم بأنّ المتّهم مذنب، ما عدا العضو الثامن الذي يعترض ويرى المتهم بريئاً.
هذا هو الفيلم الذي ينبثق فيه التوتّر من صراع الشخصيات والحوار ولغة الجسد، وليس من مشاهد الأكشن. نلمح المتّهم في لقطة عابرة، ومن خلالها نشعر بحاجته الماسّة للمنطق والعاطفة والتحيّز، الذين يتصارعون جميعاً للسيطرة على مصيره المحتوم. إنّه عمل فنّي يعرض الواقع بأسلوب منمّق، وقد كان هزيلاً وشرّيراً في فترة عرضه بعام 1957، ولم ينجح في شبّاك التذاكر برغم إعجاب النقّاد به، ومع مرور السنوات حصل الفيلم على ثمار جهوده، وهو اليوم يحتل المرتبة السادسة باختيار الجمهور لأعظم فيلم في تاريخ السينما بموقع الأفلام الشهير imdb.
القصة مقتبسة من مسرحية تلفزيونية لـ "ريجينالد روز" الذي شارك في إنتاج الفيلم، وأخرجه المبدع "سيدني لوميت" وكان عمله السينمائي الأول. طاقم الممثلين وتحديداً أعضاء هئية المحلفين هم حجر أساس الفيلم، وعلى رأسهم الفنان "هنري فوندا" الذي أنتج الفيلم وأدى فيه دور العضو الثامن بشكل رائع ومؤثّر. مع استمرار التوتّر نرى الممثلين جميعاً يدخّنون ويَعرَقون ويُقسِمون ويسترخون ويتجوّلون و"يغضبون".
مدة الفيلم ساعة ونصف، وأحياناً نشعر أنّ الفيلم تم تصويره خلال هذه المدة بالتحديد، فمثلما نحن نقضي هذا الوقت في مشاهدته، نجد الممثلين منهمكين خلال هذه المدة القصيرة في الأحداث لحظة بلحظة، ونتعرّف على شخصياتهم وخلفياتهم ووظائفهم وميولهم العاطفية. تتم مناقشة الأدلّة بشكل تفصيلي بحيث نشعر أننا نعلم كل الأمور بقدر ما يعلمها أعضاء هيئة المحلفين، خصوصاً فيما يخصّ الشاهِد العجوز الذي يقول أنّه سمع صوت جريمة القتل ورأى المتّهم وهو يفرّ هارباً، وكذلك المرأة التي تسكن في الجهة المقابلة والتي تقول أنّها شاهدت الجريمة من خلال نوافذ قطار متحرّك.
نطّلع على سلاح الجريمة، وهي سِكّين حادّة، ونشاهد الأعضاء وهم يحاولون تمثيل الجريمة، والعضو الثامن يقلّد مشية الرجل العجوز ليرى إن كان يمكنه حقاً الوصول إلى الباب في الوقت المناسب لرؤية القاتل وهو يهرب. في أسلوبه البارع والدقيق بموازنة أجزاء الأدلّة التي تبدو متناقضة، يذكّرنا الفيلم بالقصص المثيرة للكاتبة "أغاثا كريستي".
الأمر ليس حول حل الجريمة، بل حول إرسال شاب إلى الموت. يأتي الفيلم في الوقت المناسب ليكشف أنّ العديد من إدانات المحكوم عليهم بالإعدام مبنيّة على أدلّة ملوّثة. يقول العضو الثامن: "نحن نتحدث عن حياة شخص، ولا نستطيع أن نقرّر مصيره في خمس دقائق، لنفترض أننا مخطئون!!". المتّهم الذي نلمحه بشكلٍ عابر يبدو أجنبياً ولا يُكشَف عن جذوره وهويّته، فقد يكون إيطالياً أو تركياً أو عربياً أو مكسيكياً أو هندياً أو يهودياً. إنّ عينيه محوّطتان بهالاتٍ سوداء وبادٍ على وجه الإرهاق والخوف.
في غرفة هيئة المحلفين يقوم بعض الأعضاء بالإشارة للمتّهم ومن هم على شاكلته بـ "هؤلاء الأشخاص"، وأخيراً يبدأ العضو العاشر بتبجّحه العنصري قائلاً: "أنتم تعرفون كيف يكذب هؤلاء الأشخاص. إنّ الكذب يُولَد فيهم. لا يعرفون أيّ شيءٍ حول الحقيقة، ودعوني أخبركم.. إنّهم لا يحتاجون لأي سبب مقنع لقتل شخصٍ ما، فإمّا......"وباستمرار حديثه يبدأ الأعضاء واحداً تلو الآخر بالوقوف والنظر باتجاه النافذة. حتّى الذين يعتقدون أنّ المتهم مذنب لم يحتملوا الجلوس والاستماع لحديثه المتعصّب والمجحف. هذا المشهد هو واحد من أقوى مشاهد الفيلم.
التصويت الذي يبدأ بـ 11 صوتاً ضد صوتٍ واحد يتغيّر بشكلٍ تدريجي. على الرغم من أنّ الفيلم لا ينكر فضل العضو الثامن في تغيير منعطف القصة، إلّا أنّ كل الأعضاء برغم تصويتهم لـ "مذنب" لا يتم تصويرهم بصورة سلبية. العضو الرابع الذي يعمل في قطاع الأسهم ويرتدي النظارات يعتمد على المنطق الخالص ويحاول تجنّب العاطفة كلياً. العضو السابع الذي يملك تذاكر لمبارة بيسبول، ينفد صبره ويغيّر صوته لمجرّد تعجيل الأمور، فيقوم العضو الحادي عشر بانتقاده بغضب قائلاً: "من يعطيك الحق لكي تلعب بحياة هذا الرجل؟".
المخرج الراحل "سيدني لوميت" يبدع في تحريك عدسته على وجوه الممثلين في تلك الغرفة الصغيرة، فأحياناً كان يستخدم اللقطات المقرّبة ليجعلنا نشعر بما يدور في عقولهم. أخرج لاحقاً فيلم "الشبكة" والذي يركّز على الفساد الإداري والإعلامي في الشبكات التلفزيونية، وقد كان فيلماً رائعاً للغاية. فيلم "12 رجلاً غاضباً" هو من أعظم الأفلام الكلاسيكية في تاريخ السينما العالمية وقد ترشّح لنيل 3 جوائز أوسكار لأفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل نص سينمائي مقتبس.
لا أستطيع أن أصف مدى روعة الحوار في هذا الفيلم، وخصوصاً ما يورد على لسان العضو الثامن الذي يقوم بدوره الفنان "هنري فوندا"، حيث يقول في أحد المشاهد: "إنه من الصعب دائماً إخفاء التحيّز الشخصي في مسألة كهذه. إنّ التحيّز يحجب الحقيقة دائماً. أنا لا أعرف أبداً ما هي الحقيقة، ولا أتصوّر أن أحداً سيعرفها حقاً. تسعةٌ منّا الآن يشعرون أنّ المتّهم بريء، ولكننا فقط نراهن على الاحتمالات، وقد نكون مخطئين. ربّما نحن نحاول السماح لرجل مذنب بالإفلات من العقاب. أنا لا أعلم، ولا أحد يعلم حقاً، ولكن لدينا شكٌّ معقول، وهذا أمر قيّم جداً في نظامنا. لا يمكن لأعضاء هيئة المحلفين أن يؤكّدوا أنّ المتّهم مذنب ما لم يكونوا واثقين من ذلك. نحن التسعة لا نفهم كيف أنتم الثلاثة على يقينٍ بقراركم. ربّما تودّون إخبارنا بذلك!!".
 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق