الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

Pan's Labyrinth 2006


Pan’s Labyrinth

قصِصٌ متعددة الفروع تدور كالدوّامة وتجري بعيداً ثم تعوّد ملطّخة بالدماء

 


منذ زمنٍ بعيد، في مملكة ما في العالم السفلي، حيث لم يكن هناك خداع أو ألم، عاشت أميرة كانت تحلم بحياة البشر، وبسماءٍ زرقاء، وبنسيمٍ عليل، وشمسٍ مشرقة، وذات يوم هربت هذه الأميرة بعد أن تخلّصت من حُرّاسها، وحين خرجت أعماها نور الشمس الساطع ومحى كل أثار الماضي، فنسيت من تكون أو من أين جاءت، فشعرت بالبؤس والألم حتى ماتت، ولكن والدها ملك العالم السفلي كان متأكداً أنّ روح ابنته الأميرة سوف تعود، ربما في جسدٍ آخر.. في مكانٍ آخر.. وفي زمنٍ آخر!! سينتظرها، وسيظل ينتظرها.. حتّى يموت.
فيلم "متاهة بان" هو واحدٌ من أروع أفلام الفنتازيا الغنية بالغموض والعجائب. إنّها قصة خرافية تستخدم القوة والجمال الخلّاب كي تعيد للكبار مخيّلتهم البدائية ورعب القصص الذي اختبروه في مرحلة الطفولة. إنْ كنتم تذكرون القشعريرة التي أصابتكم وروح الدعابة التي دغدغت عقولكم في حضور "أليس في بلاد العجائب" و"ذات الرداء الأحمر" و"ساحر أوز" حين كنتم أطفالاً، أو لاحقاً في أفلام الرعب، عندها تكتشفون تلك الأحاسيس مرة أخرى من خلال مشاهدتكم لهذا الفيلم.
بقدر شناعته ووحشيته هو أيضاً رقيقٌ ومؤثّر. إنّه فيلمٌ أُعِدَّ للكبار وليس للصغار، بمشاهِدِه القاسية والعنيفة. فيلم "متاهة بان" هو بحدّ ذاته "متاهة قصصية" ونجد فيها قصصاً متعددة الفروع، تدور كالدوّامة وتجري بعيداً ثم تعوّد من جديد ولكن ملطّخة بالدماء.
تدور الأحداث في إسبانيا بعام 1944، ورجال المقاومة المتناثرين في الجبال يواصلون حربهم ضد نظام "فرانكو" الفاشي. بعد ذلك حالاً، وقبل أن نتعرّف على أيٍ من المحدّدات البصرية في ذلك العالم، نستمع لصوت "بان" من جوف الأرض، وهو جنّي الغابة، ولا يستطيع أحد أن ينطق اسمه غير الرياح والأشجار. يرشدنا "بان" إلى حكاية حول أميرة متوفاة ووالدها الملك ينتظر روحها أن تعود في صورة أخرى لتستعيد مكانها بجانبه.
تأتي الطفلة "أوفيليا" مع والدتها "كارمن" الحامل في الأشهر الأخيرة إلى منطقة ريفية بشمال إسبانيا بعد أن تم تكليف زوج والدتها النقيب "فيدال" بمهمة في تلك المنطقة. إنّ هذه الطفلة تعيش حياة بائسة وقاسية لما تراه حولها من حروبٍ ودمار وقتل، وقسوة زوج والدتها. لا تملك "أوفيليا" طريقة للخلاص من ذلك إلاّ بالهرب من هذا العالم إلى عالمٍ آخر من نسج خيالها وتتوارى خلف الأحلام الوردية التي تتنازع مع الواقع الأسود.
السيدة "كارمن" تمر بحالة يأسٍ شديد ووحدة لا تُطاق، وزوجها النقيب الدكتاتوري "فيدال" يحلم بالسلطة وهو مهووس بالقتل وسفك الدماء. نلتقي أيضاً بالخادمة "ميرسيدس" والطبيب "فيريرو" اللذين يعملان لدى "فيدال" ومع تطوّر الأحداث نكتشف أسرارهما وغاياتهما. القصص متشابكة ومتداخلة ولا يفصل بينها سوى أحلام "أوفيليا". تقابل "أوفيليا" الجنّي "بان" ويخبرها أنها هي الأميرة "موانا" ابنة ملك العالم السفلي، ويكلّفها بالقيام بثلاث مهام حتى تستعيد حياتها السابقة كأميرة لهذا العالم، وبذلك تبدأ مغامرات "أوفيليا" المليئة بالغموض والأسرار.
إنّه فيلم مدهش ومعقّد، ومع ذلك سلس على الرغم من كون حبكته لا ترحم، ويتوغّل بين الخيال والواقع ليصبح كلٌ منهما امتداداً للآخر. المخرج "غويلرمو دل تورو" يبدع في خلق فنتازيا حربية مؤلمة منشقّة في عالمَيْن: عالم "أوفيليا" والأشجار والجنيّات والمخلوقات الغريبة، وعالم الفاشيين والقائد "فرانكو" والتلذّذ بالقتل وتعذيب الآخرين. "دل تورو" أيضاً قام بكتابة القصّة برؤيته الخاصة مستنداً على واقعٍ مؤلم.
طاقم الممثلين مميّز جداً وقد أدّوا أدوارهم ببراعة، وخصوصاً "إيفانا باكيرو" في شخصية "أوفيليا" فقد تقمصّت الدور بإبداع وأنستنا واقع الحرب المؤلم والنظام الفاشي. "سيرجي لوبيز" بملامحه الشريرة يلعب دور النقيب "فيدال" بشكل متقن ويجعل المشاهدين يتمنّون القضاء عليه بأية طريقة. شخصية "مرسيدس" مميّزة بالأداء الفذ من قِبَل "ماريبل فيردو"، وكذلك "أدريانا جيل" بشخصية "كارمن" المثيرة للشفقة. الموسيقار "خافيير نافاريت" يملأ العالمَيْن بأنغامه المذهلة الرقيقة وخصوصاً باستخدامه للأصوات البشرية في الموسيقى التصويرية.
"متاهة بان" هو فيلم مكسيكي مميّز وأشاد به نقّاد العالم وقد لاقى إعجاب الكثير من الجماهير. حاز الفيلم على 3 جوائز أوسكار بعام 2006 لأفضل تصميم مواقع وأفضل تصوير وأفضل مكياج، وترشّح لنيل 3 جوائز أخرى لأفضل موسيقى تصويرية وأفضل نص سينمائي أصلي وأفضل فيلم أجنبي. ما يجعل هذا الفيلم قوياً هو إبداع "دل تورو" بجمعه بين عالمَيْن غير منسجمين مع بعضهما، وإصراره على تصوير الحقيقة والدقّة لكليهما حتّى النهاية، لأنّه لا يوجد "حل وسط" ولا "طريق للهروب".
بالتنقّل من إسبانيا الفاشية ومروراً بعالم الفنتازيا، سيمنحكم هذا الفيلم شعوراً مذهلاً ومؤلماً في نفس الوقت برؤية معارك الحرب الأهلية وما تفرضه من خيارات صعبة ومصيرية، ومغامرات "أوفيليا" التي تلملم شتات أحلامها المتطايرة في أحضان كابوس "متاهة بان".
دائماً ما يسير "دل تورو" على "قاعدة من ثلاثة أمور" في قصص هذا الفيلم: "ثلاثة أبواب"، "ثلاثة مهام"، "ثلاث جنيّات"، "ثلاثة عُروش". أنا شخصياً لا أعتقد أن "ثلاث مشاهدات" لهذا الفيلم ستكون كافية، لأنّه رائعٌ للغاية.


 

هناك تعليق واحد:

  1. المقال العربي الوحيد اللي أبدع في وصف الفيلم بطريقة رائعة تدل على الفهم العميق .. شكرا

    ردحذف