الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

Anna Karenina 2012


Anna Karenina

الحلم المستحيل لـ "آنا كارنينا" بعيشِ حياةٍ حقيقية في عالمٍ مزيّف!!

 

"آنا كارنينا" و"إيما بوفاري" هما من أكثر النساء شهرةً بسوء السمعة في الأدب العالمي. "كارنينا" مستعدة لأنْ تخسر كل مزايا المجتمع الراقي من أجل الرجل الذي تحبّه. "بوفاري" تتخلّى عن الرجل الذي يحبّها من أجل الصعود إلى أعلى المراتب الاجتماعية. تتدمّر حياتهما بالثمن الباهض الذي تدفعانه كما صوّرهُما كلُّ من "ليو تولستوي" و"غوستاف فلوبير" في روايتيهما.
ذكرت هذه المعلومات لأسأل نفسي: ما هي أوجه الشبه والاختلاف بين الشخصيتين؟؟ "كارنينا" تختار التخلّي عن طفلها الوحيد بكل بساطة، وكذلك "بوفاري". تصبح كل منهما بؤرة اهتمام المجتمع وحديث الساعة، وفي نهاية المطاف كلتاهما تدفعان ثمن خطاياهما غالياً. الاختلاف الأكبر بينهما هو أنّ "كارنينا" تقودها العاطفة الصادقة، بينما "بوفاري" يقودها الجشع والأنانية. "كارنينا" يُؤسَفُ على حالها، و"بوفاري" تنال الجزاء الذي تستحقه.
بداية المسيرة السينمائية للمخرج البريطاني المبدع "جو رايت" كانت بالفيلم الرائع "كبرياء وتحامل" بعام 2005، والذي مهّد للروائع السينمائية اللاحقة. رؤيته الجميلة للأدب العالمي جعلت من أعماله تحفاً فنية، وخصوصاً فيلم "الكفّارة" الذي تم اقتباسه من رواية للكاتب "إيان ماك إيوان". أخرج "رايت" بعد ذلك فيلمين مختلفين عن السابق بكونهما معاصِرَيْن، وهما "العازف المنفرد" و"هانا". فيلمه الخامس "آنا كارنينا" والمقتبس من رواية الكاتب الروسي الشهير "ليو تولستوي" هو فيلم غني بالمشاعر والأحاسيس. هذا هو الاقتباس الثاني عشر للرواية، وأؤكد لكم أنه الأجمل والأروع ولن تروا مثله على الإطلاق.
أكثر الأمور ابتكاراً في الفيلم هي عرض القصة بأكملها ضمن حدود مسرح قديم متحلل. قد يثير الأمر استغرابكم، ولكن من خلال ذلك يقدّم لنا الفيلم ترجمة حرفية دقيقة للعيون المتطفّلة والقواعد الصارمة للمجتمع الروسي الراقي في نهايات القرن التاسع عشر. يستخدم "رايت" المسرح لعرض عدّة مشاهد غير محتملة كـ "سباق للخيل" و"لقاء عشيقين في غرفة النوم" وبذلك يتيح لنا فرصة أن نشهد التغييرات المذهلة لديكور المسرح ورقصات الممثلين والكاميرا التي تتنقّل بين الزوايا. الشخصيات يجلسون بين أضواء المسرح حين يودّون البقاء لوحدهم، وللثرثرة والنميمة لا يوجد مكان أفضل من مقصورات الأوبرا، ولكنهم دائماً محاصرون في هذا المسرح القديم ولا يدركون بأنّ العالم قد تغيّر من حولهم.
الاستثناء الوحيد لذلك هو "ليفين"، المزارع الشاب الذي يزور المجتمع الراقي مرغماً ويقع في حب فتاة شابة لا تبادله الشعور. في مشهد مبكّر، يقوم هذا الشاب بدفع الباب الخلفي للمسرح ويخرج للسير في حقل ثلجي. هذا المشهد البسيط بالتصوير السينمائي المذهل يكشف النقاب عن حيلة ماكرة لا تخطر على البال، ويضع خطاً فاصلاً بين الوسط الحقيقي والمزيّف.
حين تبدأ "كارنينا" علاقتها الملتوية مع الكونت "فرونسكي" نجد السعادة على وجهيهما في حقل أزهار حقيقي، ولكنهما يعودان إلى المسرح حيث الثرثرة والأقاويل التي تجعل حياتهما مستحيلة. الحب - للزوج او الزوجة، للطفل، أو للعلاقة غير المشروعة – هو حقيقي في هذه القصة، ولكن العالم نفسه هو الذي يستطيع أن يغيّر وأن يعيد تعريف كل شيء باستمرار.
أجمل شيء قام به "رايت" هو إسناد النجمة "كيرا نايتلي" في دور البطولة للمرة الثالثة في أفلامه. إنها جميلة وأنيقة، وقد أبدعت في لعب شخصية "كارنينا". الفنان "جود لو" لعب دوراً مغايراً عن أفلامه السابقة، إذ نراه هنا متجهّمَ الوجه وبارد المشاعر على الرغم من طيبة قلبه في شخصية الزوج "كارنين"، وقد تمكّن وبكل براعة من تقديم الشخصية كما يجب.
النجم الشاب "آرون تايلور جونسون" قدّم أداءاً رائعاً لشخصية الكونت "فرونسكي" وكذلك النجم "ماثيو ماكفيديان" في شخصية "أوبلونسكي"، شقيق "كارنينا"، ولا ننسى الرائعة "كيلي ماكدونالد" التي لعبت دور زوجته "دوللي" بكل إتقان. النجمان "دومنال غليسون" و"أليشا فيكاندر" قاما بأداء مميز لشخصيتي "ليفين" و"كيتي"، ومن خلالهما شعرنا بجمال الفيلم.
النص السينمائي المدهش لـ "توم ستوبارد" يجعل من القصة الأصلية سلسلة قصصٍ رومانسية، مع قليل من السياسة على الهامش للمشاهدين الفضوليين. كتب "ستوبارد" سابقاً النص السينمائي الرائع لفيلم "شكسبير العاشق" ونال عنه جائزة الأوسكار. التركيز على التودّد البطيء بين "ليفين" و"كيتي" يتفاوت بشكل جميل بين علاقة "كارنينا" و"فرونسكي".
المخرج "رايت" مشهور بالعمل مع نفس الفريق الفني في كل أفلامه، وقد شهدنا لمساتهم البارعة في هذا الفيلم، وعلى رأسهم الموسيقار الإيطالي "داريو مارينيللي" الذي صاغ أجمل المعزوفات وأكثرها شاعرية، ووجّهها إلى قلوبنا لنقع تحت قبضتها الدافئة. الفنانة "جاكلين دوران" أبهرتنا بالأزياء الجميلة ولا ننسى المصوّر المبدع "شيموس ماكارفي" الذي قدّم لنا بعدسته وليمة بصيرة لا تُنسى.
"آنا كارنينا" هو عمل ضخم وجريء برؤية إبداعية نادرة لم يسبق لنا تجربتها من قبل. كثير من النقّاد وصفوا الفيلم بالروعة المفرطة، أي أنّ جرعة الإبداع تفوق الحد، وأنا أتساءل كيف لأمر كهذا أن يقلّل من قيمة الفيلم؟! إن جرعة الإبداع المفرطة كانت في الواقع أجمل ما قدّمه "رايت" لهذا الفيلم. حاز الفيلم على جائزة أوسكار لأفضل تصميم أزياء، وترشّح لنيل 3 جوائز أخرى لأفضل تصوير وأفضل موسيقى تصويرية وأفضل تصميم مواقع، وذلك بعام 2012.
لم ترد "كارنينا" أن تقع في الخطيئة والاستمرار في خداع زوجها الطيب، وتمنّت أن تنال حرّيتها لكي تكون مع من تحب، ولكن قوانين المجتمع وقفت في طريقها، فكيف لها أن تعيش حياة حقيقية في عالمٍ مزيّف؟! في حوار مؤثر، تقول "كارنينا" لـ "فرونسكي": "إن كنت تفكر بي، ستعيد إليَّ الأمان!!"، وهو يجبيها قائلاً: "لا يمكن أن يكون هناك أمان بالنسبة لنا، فقط التعاسة، والسعادة العظيمة!!".
 


 

هناك تعليق واحد: